عبقرية الرسول محمد في حروبه مع اليهود ومشركي قريش… أحمد داود

أحمد داود

ولد الرسول محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- في عام الفيل وهو العام الذي أرسل فيه أبرهة الحبشي جنوده لهدم الكعبة الشريفة، ولكن الله عز وجل أرسل عليهم طيراً أبابيل فجعلهم كعصف مأكول.

وفي هذا العام منعت الشياطين للوصول إلى السماء وجعل الله لهم شهباً في السماء تنيرها وتقذف الشياطين بعيداً، قال تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم.

خاتم الأنبياء محمد ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، يتيم الأب، وشعر بكل المأساويات التي يعاني منها البشر، ليشعر بهم ولكنه بقي الأعظم والأنقى بين خلق الله، حتى قال الله عز وجل مادحاً له : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر).

وفي مجتمع قريش كان الجميع يعبدون الحجارة (الأصنام) ويتخذونها آلهة تقربهم إلى الله زلفى، غير أن الرسول الكريم جاء وهدفه توعية المجتمع بضرورة إعادة التفكير، وإعادة النظر في كل ما يفعلونه، جاء ليقول لهم.. أعيدوا التفكير في عبادة هذه الأصنام، فإلهكم هو الله الواحد الأحد.

ويقول فيلسوف الغرب الأكبر توماس كارليل في كتابه الشهير “المثل الأعلى” عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : “لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيا به من العرب أمة هامدة ، وهل كانوا إلا فئة من جوالة الأعراب خاملة فقيرة، تجوب الفلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبلة، فإذا الخمول قد استحال شهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة والشرارة حريقاً وسع نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب”.

ويرد كارليل على المتطاولين على مقام الرسول في الغرب قائلاً  : ” كلا ، ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة، قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل، وتدحض حجة القوم الكافرين”.

والحديث عن شخصية الرسول الأكرم، تحتاج إلى مجلدات كبيرة، لم تملأها الكتب، ولا الدراسات والمواعظ والخطب، لكننا سنركز على جانب معين من عبقرية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة في ما يتعلق بالحروب مع الأعداء، فقد كان الرسول يحرص على أن لا يواجه الأعداء جميعاً في وقت واحد، فإذا تجمعوا لقتاله حرص على التفريق فيما بينهم بكل الوسائل ، حتى إذا امكنته الفرصة بطش بأقواهم ثم بمن بعدهم حتى يتم له النصر.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام حين يريد الأمر فيحال بينه وبين ما يريد ، تأخذه حمية المقاتل الذي يصر على أن ينتصر بل كان يقدر الظروف المحيطة به ، ويقارن بين ما يريد وبين ما يعرض له من فرصة ، فإن وجدها أجدى عليه مما يريد عمل بها وأخر ما يريد إلى وقت آخر ، وبذلك نجحت الدعوة في حياته من كثير من المتاعب ، وحال دون تألب الأعداء عليه جميعاً إلا حين لم يستطع لذلك دفعاً كما في غزوة الأحزاب.

وأنزل –صلى الله عليه وآله سلم- الضربات المتتالية بأعداء الدعوة فريقاً إثر فريق ، وتنازل في مواقف الشدة عن بعض مظاهر القوة ليدفع شراً أو ليكسب من وراء ذلك نصراً.

وفي المدينة المنورة  واجه الرسول جبهة أخرى معادية لدعوته ، بعد أن كان العداء بينه وبين خصوم الدعوة في مكة محصوراً في قريش ومن يناصرها .. هنا تتجلى حكمة الرسول البعيدة المدى ، إذ بادر إلى عقد ميثاق بينه وبين يهود المدينة ليأمن شرهم ، ويمنعهم من مؤازرة قريش في معاركها المقبلة، ووضع الميثاق  وأصبح اليهود مواطنين في المدينة يربطهم الميثاق الجديد بالدفاع عن المدينة ممن يقصد غزوها ، وبأن يكونوا مع المؤمنين فيها يداً واحدة على النوائب ، ومن هنا استطاع الرسول أن يتفرغ لرد عدوان قريش ، وأن يخوض معها بدراً وأُحداً وغيرهما من المعارك ، آمناً في جبهته الداخلية ، مكفياً شر اليهود وهم أقدر على إيذائه من قريش إذ كانوا في أرباض المدينة وما حولها .

ولكن طبيعة اليهود تأبى إلا الغدر والخيانة ، فما كاد رسول الله صلى الله عليه و آله سلم ينتصر على قريش في بدر حتى ثارت في يهود بني قينقاع عوامل الحقد والبغضاء ، فأظهروا للمسلمين شراً ، وغدروا ببعض نساء الأنصار ، فهتكوا حرمتهن ، ولم ير رسول الله – وهو الذي يعلم أن، هؤلاء اليهود سيكون منهم ما كان من يهود نبي قينقاع – أن يجاهرهم جميعاً بالعداء ، بل حارب بني قينقاع وحدهم ، وتمّ له إجلاؤهم عن ديارهم ، وظل على عهده مع بقية اليهود ، إذ لم يبد منهم في الظاهر ما يدل على نقض الميثاق ، ولأن معركته مع قريش لم تنته بانتصاره عليها في بدر.

وتحرك بعد ذلك بنو النضير ، وهم يجاورون المدينة وقد كانوا حلفاء الخزرج قبل الإسلام ، وناصبوا الرسول العداء ، وبيتوا على قتله ومن معه ، فأنذرهم الرسول بوجوب الجلاء عن مساكنهم ، بعد أن بدا منهم الغدر ، فلما أبوا وتحصنوا في حصونهم ، نازلهم المسلمون وتغلبوا عليهم ، فاضطروا للجلاء  عن ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب.

وظل الرسول بعد ذلك محافظاً على ميثاقه مع بقية اليهود الذين لم ينقضوا الميثاق ، مع أن الدلائل كلها تدل على أنهم جميعاً محنقون من انتشار الدعوة ، مبيتون للغدر بالرسول ومن معه ، ذلك أن رسول الله سار على هذه الخطة وهي ألا يحارب في جبهتين وأن يتقي أقوى الجبهتين خطراً بأقلها وأقربها إلى الخضوع والاستسلام.

وانتظر الرسول حتى تم صلح الحديبية ، وأمن شر قريش ، فاتجه إلى تصفية قضية اليهود الباقين حول المدينة فأنهى علائقه مع يهود فدك ، بحقن دمائهم ومغادرة ديارهم ، وترك أموالهم ، ثم انتهى من يهود وادي القرى ويهود خيبر ، فتغلب عليهم ، وفرض عليها الجزية ، وجردهم من قوتهم الحربية .. وبذلك انتهى من معركة اليهود  ، دون أن يخوض معهم جميعا معركة واحدة ، ودون أن يحاربهم وقريشاً في وقت واحد .

وهذه إحدى العبر في تاريخ الرسول السياسي والعسكري ، دلنا على براعته وتوفيقه في الوصول إلى النصر ، دون أن يثير قوى الأعداء عليه جميعاً ، ما دام يستطيع أن يفرق بينهم – كما في غزوة الخندق – أو أن يضربهم الواحد بعد الآخر كما حصل في تصفية قضية اليهود في جزيرة العرب .

وحين رأى الرسول الكريم إصرار قريش على أن لا يدخل مكة في صلح الحديبية رجع عنها هو وصحبه بعد أن أوشكوا على الوصول إليها، ولكن المعركة يومئذ ستكلف المسلمين كثيراً من التضحيات ، وما  كسبه الإسلام من صلح الحديبية ، كان أعظم سياسياً ودينياً وعسكرياً مما كان يكسبه لو دخل المسلمون آنئذ مكة عنوة ، وما هو إ انتظار سنتين بعد ذلك حتى دخل الرسول مكة فاتحاً ، وقد استسلمت قريش ، ثم دخلت في دين الله أفواجا.

عبقرية الرسول محمد في حروبه مع اليهود ومشركي قريش

أحمد داود

ولد الرسول محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- في عام الفيل وهو العام الذي أرسل فيه أبرهة الحبشي جنوده لهدم الكعبة الشريفة، ولكن الله عز وجل أرسل عليهم طيراً أبابيل فجعلهم كعصف مأكول.

وفي هذا العام منعت الشياطين للوصول إلى السماء وجعل الله لهم شهباً في السماء تنيرها وتقذف الشياطين بعيداً، قال تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم.

خاتم الأنبياء محمد ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، يتيم الأب، وشعر بكل المأساويات التي يعاني منها البشر، ليشعر بهم ولكنه بقي الأعظم والأنقى بين خلق الله، حتى قال الله عز وجل مادحاً له : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر).

وفي مجتمع قريش كان الجميع يعبدون الحجارة (الأصنام) ويتخذونها آلهة تقربهم إلى الله زلفى، غير أن الرسول الكريم جاء وهدفه توعية المجتمع بضرورة إعادة التفكير، وإعادة النظر في كل ما يفعلونه، جاء ليقول لهم.. أعيدوا التفكير في عبادة هذه الأصنام، فإلهكم هو الله الواحد الأحد.

ويقول فيلسوف الغرب الأكبر توماس كارليل في كتابه الشهير “المثل الأعلى” عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : “لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيا به من العرب أمة هامدة ، وهل كانوا إلا فئة من جوالة الأعراب خاملة فقيرة، تجوب الفلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبلة، فإذا الخمول قد استحال شهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة والشرارة حريقاً وسع نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب”.

ويرد كارليل على المتطاولين على مقام الرسول في الغرب قائلاً  : ” كلا ، ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة، قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل، وتدحض حجة القوم الكافرين”.

والحديث عن شخصية الرسول الأكرم، تحتاج إلى مجلدات كبيرة، لم تملأها الكتب، ولا الدراسات والمواعظ والخطب، لكننا سنركز على جانب معين من عبقرية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة في ما يتعلق بالحروب مع الأعداء، فقد كان الرسول يحرص على أن لا يواجه الأعداء جميعاً في وقت واحد، فإذا تجمعوا لقتاله حرص على التفريق فيما بينهم بكل الوسائل ، حتى إذا امكنته الفرصة بطش بأقواهم ثم بمن بعدهم حتى يتم له النصر.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام حين يريد الأمر فيحال بينه وبين ما يريد ، تأخذه حمية المقاتل الذي يصر على أن ينتصر بل كان يقدر الظروف المحيطة به ، ويقارن بين ما يريد وبين ما يعرض له من فرصة ، فإن وجدها أجدى عليه مما يريد عمل بها وأخر ما يريد إلى وقت آخر ، وبذلك نجحت الدعوة في حياته من كثير من المتاعب ، وحال دون تألب الأعداء عليه جميعاً إلا حين لم يستطع لذلك دفعاً كما في غزوة الأحزاب.

وأنزل –صلى الله عليه وآله سلم- الضربات المتتالية بأعداء الدعوة فريقاً إثر فريق ، وتنازل في مواقف الشدة عن بعض مظاهر القوة ليدفع شراً أو ليكسب من وراء ذلك نصراً.

وفي المدينة المنورة  واجه الرسول جبهة أخرى معادية لدعوته ، بعد أن كان العداء بينه وبين خصوم الدعوة في مكة محصوراً في قريش ومن يناصرها .. هنا تتجلى حكمة الرسول البعيدة المدى ، إذ بادر إلى عقد ميثاق بينه وبين يهود المدينة ليأمن شرهم ، ويمنعهم من مؤازرة قريش في معاركها المقبلة، ووضع الميثاق  وأصبح اليهود مواطنين في المدينة يربطهم الميثاق الجديد بالدفاع عن المدينة ممن يقصد غزوها ، وبأن يكونوا مع المؤمنين فيها يداً واحدة على النوائب ، ومن هنا استطاع الرسول أن يتفرغ لرد عدوان قريش ، وأن يخوض معها بدراً وأُحداً وغيرهما من المعارك ، آمناً في جبهته الداخلية ، مكفياً شر اليهود وهم أقدر على إيذائه من قريش إذ كانوا في أرباض المدينة وما حولها .

ولكن طبيعة اليهود تأبى إلا الغدر والخيانة ، فما كاد رسول الله صلى الله عليه و آله سلم ينتصر على قريش في بدر حتى ثارت في يهود بني قينقاع عوامل الحقد والبغضاء ، فأظهروا للمسلمين شراً ، وغدروا ببعض نساء الأنصار ، فهتكوا حرمتهن ، ولم ير رسول الله – وهو الذي يعلم أن، هؤلاء اليهود سيكون منهم ما كان من يهود نبي قينقاع – أن يجاهرهم جميعاً بالعداء ، بل حارب بني قينقاع وحدهم ، وتمّ له إجلاؤهم عن ديارهم ، وظل على عهده مع بقية اليهود ، إذ لم يبد منهم في الظاهر ما يدل على نقض الميثاق ، ولأن معركته مع قريش لم تنته بانتصاره عليها في بدر.

وتحرك بعد ذلك بنو النضير ، وهم يجاورون المدينة وقد كانوا حلفاء الخزرج قبل الإسلام ، وناصبوا الرسول العداء ، وبيتوا على قتله ومن معه ، فأنذرهم الرسول بوجوب الجلاء عن مساكنهم ، بعد أن بدا منهم الغدر ، فلما أبوا وتحصنوا في حصونهم ، نازلهم المسلمون وتغلبوا عليهم ، فاضطروا للجلاء  عن ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب.

وظل الرسول بعد ذلك محافظاً على ميثاقه مع بقية اليهود الذين لم ينقضوا الميثاق ، مع أن الدلائل كلها تدل على أنهم جميعاً محنقون من انتشار الدعوة ، مبيتون للغدر بالرسول ومن معه ، ذلك أن رسول الله سار على هذه الخطة وهي ألا يحارب في جبهتين وأن يتقي أقوى الجبهتين خطراً بأقلها وأقربها إلى الخضوع والاستسلام.

وانتظر الرسول حتى تم صلح الحديبية ، وأمن شر قريش ، فاتجه إلى تصفية قضية اليهود الباقين حول المدينة فأنهى علائقه مع يهود فدك ، بحقن دمائهم ومغادرة ديارهم ، وترك أموالهم ، ثم انتهى من يهود وادي القرى ويهود خيبر ، فتغلب عليهم ، وفرض عليها الجزية ، وجردهم من قوتهم الحربية .. وبذلك انتهى من معركة اليهود  ، دون أن يخوض معهم جميعا معركة واحدة ، ودون أن يحاربهم وقريشاً في وقت واحد .

وهذه إحدى العبر في تاريخ الرسول السياسي والعسكري ، دلنا على براعته وتوفيقه في الوصول إلى النصر ، دون أن يثير قوى الأعداء عليه جميعاً ، ما دام يستطيع أن يفرق بينهم – كما في غزوة الخندق – أو أن يضربهم الواحد بعد الآخر كما حصل في تصفية قضية اليهود في جزيرة العرب .

وحين رأى الرسول الكريم إصرار قريش على أن لا يدخل مكة في صلح الحديبية رجع عنها هو وصحبه بعد أن أوشكوا على الوصول إليها، ولكن المعركة يومئذ ستكلف المسلمين كثيراً من التضحيات ، وما  كسبه الإسلام من صلح الحديبية ، كان أعظم سياسياً ودينياً وعسكرياً مما كان يكسبه لو دخل المسلمون آنئذ مكة عنوة ، وما هو إ انتظار سنتين بعد ذلك حتى دخل الرسول مكة فاتحاً ، وقد استسلمت قريش ، ثم دخلت في دين الله أفواجا.