أمة المليار مسلم لماذا عجزت عن إنقاذ غزة؟
تقرير | صادق البهكلي
في ظل المشاهد المروعة والمجازر البشعة التي ترتكبها قوات العدو الإسرائيلي بحق أهلنا في غزة، يتساءل كثيرون، ليس فقط من أبناء الأمة الإسلامية بل من العالم أجمع: لماذا تقف أمة المليار والنصف مليار مسلم، التي تملك من الموارد البشرية والاقتصادية والعسكرية ما يمكنها من تغيير موازين القوى، وتمتلك من القوى المادية والمعنوية ما يجعلها قادرة – دون مبالغة – على تحرير فلسطين دون حرب مباشرة؛ عاجزة عن تقديم حتى كلمة أو موقف يتناسب مع حجم الإبادة والمجازر التي يتعرض لها أبناء غزة؟
إن هذا التساؤل ليس مجرد لوم أو عتاب، بل هو دعوة عميقة لتشخيص داءٍ أصاب الأمة، وجعلها -رغم إمكانياتها الضخمة- تتخلى عن مسؤوليتها تجاه قضاياها المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
الفاجعة في غزة يقابلها خذلان إسلامي غير مسبوق، ليس بسبب عجز عسكري أو سياسي أو اقتصادي، بل هو انعكاس لواقع غير سليم، في مقدمة ذلك انفصال الأمة عن هويتها الإسلامية، واستبدلت بها ثقافة تضليلة مزيفة صنعت منها مسوخًا بشرية لا تعرف سوى الصمت.
إن الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمة -من منطلق تكريمه لها- أن تكون “خير أمة أخرجت للناس”.
في هذا التقرير، نحاول -بايجاز- تحليل أسباب هذا العجز، نشخص مظاهر القوة الظاهرية لنوضح مكامن الضعف الكامنة في الفكر والثقافة، وكيف أن الانحراف عن الله وعن هداه هو السبب الجذري لما تعانيه الأمة اليوم. إن الإجابة عن سؤال “لماذا عجزت أمة المليار عن إنقاذ غزة؟” تكمن في إعادة قراءة علاقة هذه الأمة مع الإيمان والعمل، ووقوفها بين القول والفعل، وبين الصورة الظاهرية والجوهرية للدين الإسلامي الذي اختاره الله لنا.
تُعَد الأمة الإسلامية -من حيث الإمكانات المادية والبشرية- قوة لا يستهان بها على مستوى العالم. فجيوش الدول الإسلامية تضم ملايين الجنود المدربين، وتتوزع في مناطق استراتيجية غنية بالموارد الطبيعية، وعلى رأسها النفط الذي يُعد ورقة ضغط اقتصادية هائلة، يمكن أن تشل الاقتصاد العالمي إذا ما استُخدمت بفاعلية.
إضافة إلى ذلك، فإن قوة المقاطعة الاقتصادية للمنتجات والشركات الداعمة للاحتلال يمكن أن تُحدث تأثيراً بالغاً، وتُسقط أكبر القلاع الاقتصادية. وهي أدوات سلمية بحد ذاتها، قادرة على تحقيق أهداف كبيرة دون الحاجة إلى حرب تقليدية. ومع ذلك، نرى أن هذه الإمكانات الهائلة، وبدلا من أن تُوظف بالشكل المطلوب لخدمة قضايا الأمة، يتم توظيفها في خدمة أعداء الأمة، ومن العجيب أن نجد دولاً عربية وإسلامية تساند الكيان الصهيوني تجاريا و عسكريا وإعلاميا ضد أبناء غزة ومقاومتها.
ما نراه من حالة ذلة وتفرج إسلامي حكوماتٍ و شعوباً -اللهم إلا ما يقدمه أحرار الشعب اليمني وحزب الله وفصائل المقاومة العراقية و إيران- هو نتيجة لثقافة التضليل والتدجين و خيانة الأنظمة العربية والإسلامية التي تتسابق في ود أمريكا و”إسرائيل”.
إن العروض العسكرية الضخمة والأسلحة المتطورة التي تمتلكها بعض الدول الإسلامية لم تعد تشكل حماية أو أملاً، بل فُضِح أمرها بعد ما رأيناه ونراه في غزة، وهو ما يؤكد أن المشكلة ليست في نقص الإمكانات، بل في غياب القيادة الإسلامية الحقيقة التي تنطلق من مبادئ الإسلام الصحيح، وفي الانحراف عن توجيهات الله سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه.
لقد أراد الله لهذه الأمة أن تكون “خير الأمم”، وأن تتصف بصفات تؤهلها لحمل رسالة الإسلام وإقامتها في الأرض. من أبرز هذه الصفات -التي وصف الله بها المؤمنين في كتابه العزيز- هي أن يكونوا “أشداء على الكفار رحماء بينهم”. هذه الصفة التي تجمع بين القوة والشدة في مواجهة الأعداء، وبين الرحمة والتآلف بين المؤمنين، هي ما يضمن للأمة وحدتها وتماسكها وقدرتها على مواجهة التحديات. إن الإيمان بالله ليس مجرد إيمان نظري بوجود خالق، بل هو “إيمان عملي، إيمان واعٍ” يترتب عليه الاستجابة الكاملة لأوامر الله.
فعندما يدعو الله المؤمنين لأن يكونوا أنصاره، فإن هذه الدعوة تنبع من كونه “هو ملك السموات والأرض، وهو الغالب على أمره، وهو القاهر فوق عباده، وهو القوي، وهو العزيز”. هذا الإيمان الواعي هو الذي يدفع المؤمن للانطلاق بقوة في سبيل الله، لأنه يعلم أنه مدعو ممن هو أقوى وأعز وأكبر من كل شيء، فالضعف في معرفة الله سبحانه وتعالى، والجهل بما تعنيه أسماؤه الحسنى، يؤثر بشكل مباشر على الاستجابة لأوامره. فالناس جميعاً يقرأون ويؤمنون بآيات مثل “يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله”، ولكن لماذا لا تتحقق الاستجابة الكاملة؟ لأن هناك ضعفاً في موضوع الإيمان بالله. القرآن الكريم يريد من المسلمين أن ينطلقوا في عمارة الأرض بالصلاح و محاربة الفساد والمفسدين، ولكن -بدلا عن ذلك- استطاع اليهود جرهم إلى التفاهات، و قدموا لهم العري والحفلات الماجنة على أنها ثقافة وتحرر، ونصبوا لهم رموزاً هلامية من العاهرات ولاعبي كرة القدم، وقدموهم بصفة (النجوم)، واستطاعوا فصلهم عن الله وعن رسوله ورسالته.. فبدلا من “الجهاد في سبيل الله، والعمل لإعلاء كلمة الله”، وإعداد ما يمكن إعداده، والاهتمام بالعلوم والصناعة، اهتموا بإنتاج المسلسلات المايعة، وفتح البلدان الإسلامية للفساد الأخلاقي الذي يأتي من عند اليهود، فتلاشوا وضاعوا وضعيوا أمانة الله. الله أراد للمسلمين أن يكونوا قادرين على تمويل أنفسهم، وأن يكونوا مستقلين في قراراتهم وأفعالهم، لا يبحثون عن أطراف أخرى تسندهم، أو -كما تفعل انظمتهم- يطلبون السلام من أعدائهم، فلا هم حصلوا على السلام، ولاهم بنوا أنفسهم.
من أبرز أسباب العجز الذي تعيشه الأمة اليوم هو الانحراف في فهم المفاهيم الدينية الجوهرية، وفي مقدمتها مفهوم “طاعة ولي الأمر”. لقد تم توظيف هذا المفهوم لتبرير الخضوع المطلق للحكام، حتى لو كانت أفعالهم لا تتوافق مع شرع الله، أو تتعارض مع مصالح الأمة العليا.
لقد اخترقت الثقافة اليهودية المسلمين، وقدموا لنا مذاهب تدجينية، كالوهابية التي نشروها في مختلف البلدان الإسلامية بأموال الحج والعمرة، والتي تتبنى ثقافة التدجين لعملاء الصهاينة ممن اعتلوا أكتاف هذه الأمة، واختلقوا أحاديث مكذوبة على رسول الله، مثل “أطِعِ الْأَمِيرَ وَإِنْ قَصَمَ ظَهْرَكَ”، لتكريس ثقافة الطاعة العمياء والخنوع، ما أدى إلى شل حركة الأمة ومنعها من محاسبة حكامها أو تغيير الواقع الفاسد.
الله سبحانه وتعالى قدم في كتابه العزيز ما يجعل المسلمين على بصيرة تمكنهم من “التقييم، فيعرفوا الصادق من الكاذب، يعرفوا من قد يمكن أن تكون أفعاله متوافقة مع أقواله الجذابة، يعرفون من قد يمكن أن يكون مخادعاً بكلامه المعسول، وأفعاله كلها شر”.
لأن المؤمن ليس مطالبًا بطاعة عمياء، بل هو مطالب برفض الطواغيت والظالمين ممن قال الله فيهم “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل”. هذا الوصف القرآني ينطبق تمامًا على الكثير من الحكام الذين يتولون أمور المسلمين اليوم، والذين يسعون في الأرض فسادًا بإهلاك الحرث والنسل، وتثبيط الأمة، وتشجيعها على الحد من النسل وتقليل عدد المسلمين. إن الطاعة الحقيقية هي لله وحده، ولرسوله ومن أمر بتوليهم، وهي طاعة تؤدي إلى الرشد الكامل في الحياة، وليست طاعة جزئية أو مشروطة كما أصبح سائدا لدى أغلب المسلمين، فالكثير منهم مستعدون لأداء العبادات كالصلاة، لأنها لا تمثل خطورة عليهم، ولكنهم يتجنبون القضايا التي تبدو صعبة أو خطيرة، مثل الجهاد أو مواجهة الظلم. هذا يؤكد أن التضليل في مفهوم الطاعة قد أفرغ الدين من محتواه الجهادي والعملي، وحصره في دائرة ضيقة لا تهدد مصالح الظالمين، ما أدى إلى خذلان الأمة وتأخرها.
مفهوم الوسطية والاعتدال: خضوع لا تحرر وكانعكاس لثقافة التدجين، قدمت مفاهيم مغلوطة على أنها من صميم الإسلام كمفهوم “الوسطية والاعتدال” في الإسلام، حيث تم تقديمه على أنه دعوة إلى الخضوع والمسالمة المطلقة، وتجنب أي شكل من أشكال المواجهة أو الصراع، حتى لو كان ذلك دفاعاً عن الحق ونصرة للمظلومين.
هذا التفسير – الذي تروج له مؤسسات “دينية” مرتبطة بأنظمة العهر من شيوخ الدجل والنفاق، ومعهم الكثير من العملاء والخونة والمخدوعين ممن يُطلق عليهم أنهم نخب ثقافية وأكاديمية – قد أفرغ الإسلام من حركته وفاعليته، وحوّله إلى مجرد طقوس وشعائر فردية لا تتدخل في الواقع السياسي والاجتماعي.
إن الله سبحانه وتعالى شرع “الجهاد في سبيل الله”، وإن هذه الفريضة -رغم ما تبدو عليه من صعوبة- هي في الحقيقة كما قال الإمام علي عليه السلام “باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه”.
ولأن الأمة عندما أصبحت ضحية للثقافات المغلوطة باتت ترى القضايا العظيمة -مثل الجهاد في سبيل الله- “مشكلة، ومصيبة”، تحولت فريضة الجهاد ومواجهة الظلم إلى قضية مكروهة أو مستبعدة باسم الوسطية والاعتدال، ما أدى إلى هذا العجز عن نصرة غزة، بل -وبدون خجل- رأينا من يصنف المقاومة الإسلامية بالإرهاب، ممن هم محسوبون على هذه الأمة، وومن يطلقون على أنفسهم “خدام الحرمين الشريفين”، ويطالبون -بكل استماتة- بنزع سلاح حماس.
القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى قتال هؤلاء المجرمين: “قاتِلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”. وحتى إن الله أعطى المسلمين الإذن للقتال في الأشهر الحرم ضد من يعتدي عليهم ويقاتلهم، وهذا يدل على أن مفهوم الوسطية لا يعني الخنوع أو التخلي عن الحقوق، بل يعني القوة والقدرة على الردع والمواجهة. الانهزام الفكري والروحي -الذي نتج عن تحريف هذه المفاهيم- جعل الأمة تنظر إلى القوة والجهاد أنه وسيلة للتهلكة، بينما هو في الحقيقة وسيلة لإنقاذ النفس وحماية الأمة وتحقيق العزة.إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى استعادة الفهم القرآني الصحيح لمفهومي “الوسطية والاعتدال”، بحيث يصبحان دافعاً للتحرك والجهاد في سبيل الله، لا مبرراً للخضوع والعجز.
إن الأمة الإسلامية اليوم تقف أمام مفترق طرق حاسم. العجز عن نصرة غزة ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة طبيعية للانحراف عن المنهج القرآني الأصيل في الفهم والعمل.
فإذا كانت الأنظمة الإسلامية عاجزة – أو خائنة – فإن الطريق لاستعادة الكرامة يبدأ من وعي الشعوب الإسلامية بأهمية العودة إلى القرآن الذي يحرر العقل، ويعيد تعريف الدين كمنهج قوة وعزة ورفض للهيمنة.
القرآن يصنع أمة لا تخاف، لا تجبن، لا تسكت. أمة تعرف كيف تكون مع الله، لا: كيف ترضي الحاكم. أمة تعيد تعريف “الطاعة”، فتجعلها مقيدة بالحق، لا مطلقة للظالم. أمة ترى في الجهاد وسيلة للتحرر، لا تهمة يجب التنصل منها.
ويجب مراجعة الواقع وفهم الخلل والتحرر من الثقافات التضليلية التي باتت دينًا، والتي ترتكز على مفاهيم مغلوطة مثل طاعة ولي الأمر وتطويع الدين لأهوائهم، فهذا هو ما أضعف الأمة وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم. إن الخروج من هذا المأزق يتطلب عودة صادقة وواعية إلى القرآن الكريم، وإلى الفهم الحقيقي لمفاهيمه، وإلى توطين النفس على الاستجابة الكاملة لله في كل ما أمر به.
على الأمة أن تستوعب أن الله غني عن عباده، وأن كل ما يأمر به هو لمصلحتهم ورشدهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. إن طريق الإنقاذ يبدأ من الداخل، من إصلاح الفكر والثقافة، ومن ترجمة الإيمان إلى عمل شامل، حينها فقط يمكن لأمة المليار أن تستعيد عزتها وقوتها، وتصبح “خيراً للأمم” كما أراد لها الله.