المولد النبوي وميلاد أمة الجهاد والتضحية
من صنعاء التي احتضنت الحشود كأمّ رؤوم، إلى صعدة، وإب، وتعز الحرة، والحديدة، وذمار، والمحويت، وعمران، وحجة، ومأرب، والجوف، والبيضاء، وكل محافظة من محافظات اليمن الحر المقاوم، تدفقت الجماهير بالملايين. لم يكن العدد مجرد تقدير، بل حقيقة مدهشة تخطت كل حسابات الاستعدادات: ملايين اليمنيين جسدوا لوحة بشرية غير مسبوقة في تاريخ الأرض، مشهد يليق بالرسول الأعظم الذي وحّد العرب والعجم تحت راية التوحيد، ويليق بأمةٍ يمنية ورثت من أنصار الأمس صدق البيعة، ومن أجدادها الأوس والخزرج نبل النصرة.
كانت الساحات ممتلئة بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ، بالأصحاء والجرحى والمعاقين، بالعلماء والمجاهدين، بالفلاحين والعمال والتجار، بالآباء والأمهات اللواتي حملن أطفالهن الرضع ليُسجلوا ولاءهم الأول لمحمد في عمرٍ لم يبدأ بعد. لم تكن تلك مجرد جموع، بل كانت أمة كاملة تسير في موكبها المحمدي، وكأن التاريخ كلّه خرج دفعةً واحدة ليقول للعالم: هنا محمد حيّ في قلوبنا، وهنا رسالته تُرفع فوق الجبال والسهول، وهنا صوته لا يزال يتردد في أذان المؤذنين، وهنا دربه لا يزال محفوفاً بالولاء والجهاد والتضحية.
بمشاهدهم المهيبة، بعشقهم الفياض، بصرخاتهم التي اخترقت السماء، أوصل اليمنيون رسالةً واضحة: نحن أنصار محمد، ومن محمد استمددنا عزيمتنا، وبه واجهنا التحديات، ومعه تغلبنا على الصعاب، وبولائنا له تمكّنا من مواجهة أمريكا و”إسرائيل”، ومن الانتصار لإخواننا في فلسطين. لم يكن هذا الاحتفال مجرد طقسٍ ديني، بل كان إعلان موقف، وتجديد بيعة، واستفتاءً شعبيّاً مفتوحاً لا يحتاج إلى صناديق ولا إلى لجان مراقبة دولية. لقد أعلن الشعب اليمني بإجماعٍ مهيب أن شرعيته تنبع من إرادته، وأن قيادته الحقيقية تتمثل في المسيرة القرآنية بقيادة السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله.
هذه الملايين التي ملأت الأرض ضياءً، لم تخرج بدافع الحماسة العابرة، ولا بدعوةٍ مؤقتة، بل خرجت لأنها وجدت نفسها في محمد، ووجدت هويتها في رسالته. لقد أعلن اليمنيون بوضوح أن هويتهم ليست غربية ولا شرقية، ولا أممية مشوّهة كما يروّج الأعداء، بل هي الهوية الإيمانية التي خطّها القرآن، ورسمها محمد صلوات الله عليه وآله، وطبّقها آل بيته الأطهار. في زمنٍ تتخبط فيه الشعوب بين ثقافات دخيلة وولاءات زائفة، أعلن اليمنيون أن ولاءهم لله ورسوله، وأن انتماءهم للإسلام الأصيل، وأن حبهم لرسول الله ليس مجرد عاطفة، بل سلوك يومي يتجسد في التضحية والصمود والجهاد.
لم يكن المشهد مجرد احتفال، بل كان إعلان وحدة. من شمال اليمن إلى جنوبه، من جباله إلى سهوله، من قراه إلى مدنه، كان المشهد واحداً، والشعار واحداً، والهتاف واحداً: محمد قائدنا، والإسلام هويتنا، والجهاد سبيلنا، والمستضعفون قضيتنا. لقد أثبت الشعب اليمني مرةً أخرى أن كل محاولات الأعداء لتمزيقه وإثارة الفتن بين أبنائه قد سقطت أمام هذا المشهد المهيب. بل إن هذه الملايين كانت بمثابة جدارٍ صلب حطّم الحرب الإعلامية التي تُشن ضده، وأسقط كل الروايات المضللة التي حاولت تشويه صورته.
هذا الحشد لم يكن مجرد تعبير ديني أو وجداني، بل كان فعلاً سياسياً بامتياز. لقد مثّل تفويضاً شعبياً مطلقاً للقيادة في قراراتها المصيرية، ودعماً واضحاً لتحركات الجيش اليمني في مواجهة التحالف الأمريكي – الصهيوني، وتأكيداً على رفض اليمنيين لأي وصاية خارجية أو قرارات دولية لا تعبّر عن إرادتهم. لقد كان رسالة إلى كل قوى العالم أن الشعب اليمني اختار خياره النهائي: المقاومة والجهاد، والبراءة من أعداء الله، والوقوف مع المستضعفين وفي مقدمتهم فلسطين.
لم يغب عن اليمنيين في هذه المناسبة أن إخوانهم في فلسطين يتعرضون لأبشع المجازر. فكانت الشعارات في الساحات تتدفق حباً لمحمد صلوات الله عليه وآله ووفاءً لفلسطين، وكانت العبارات تتوالى: “لبيك يا رسول الله” و”الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل” و”النصر للإسلام”. كانت القضية الفلسطينية حاضرة في كل قلب، وكان دم شهداء غزة يلهب المشاعر، وكان اليمنيون يؤكدون أنهم ليسوا متفرجين، بل هم جزءٌ من المعركة الكبرى التي يخوضها محور المقاومة ضد الطغيان العالمي.
وفي قلب هذا المشهد العظيم، يبرز القائد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي كرمزٍ جامع، يلتف حوله الملايين كما التف الأنصار حول رسول الله في بيعة العقبة. لقد جسّد الشعب اليمني في احتفاله هذا تفويضه المطلق لقيادته الربانية، وأعلن أنه ماضٍ خلفها في كل الميادين، سواء في مواجهة العدوان العسكري، أو في مقارعة الهيمنة الأمريكية، أو في التصدي للحرب الاقتصادية والإعلامية. هذه الملايين هي بيعة جديدة، ورسالة واضحة بأن اليمن لن يساوم على قضيته، ولن يتراجع عن مواقفه.
لقد سجّل التاريخ أن في يومٍ ميلاد المصطفى خرج الشعب اليمني في أضخم فعالية جماهيرية على وجه الأرض، ليحتفي بميلاد محمد صلوات الله عليه وآله، لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل، ولن يشهد بسهولة مثيلاً لها من بعد. لقد كانت ملحمة إيمانية تُذكّر بملحمة بدر وأُحُد والخندق، لكنها -هذه المرة- على هيئة أمة كاملة تخرج لتجدد العهد والولاء. كانت مواقف الرجال والنساء والأطفال تروي للأجيال القادمة أن اليمنيين لم يعرفوا يوماً التخاذل، وأنهم حين أحبوا محمداً، أحبوه حباً يعلو على حب النفس والأهل والولد.
بهذا المشهد غير المسبوق، أعلن اليمنيون أنهم الأمة التي لم تضعف رغم الحصار، ولم تستسلم رغم العدوان، ولم تنكسر رغم المؤامرات. أعلنوا أنهم أمة محمد الحقيقية، التي تحيا برسالته، وتنهض بجهاده، وتستمد من سيرته العزيمة على مواجهة الطغيان. لقد أثبتوا أن محمداً لا يزال حياً في قلوبهم، وأنهم ببركته قادرون على مواجهة أمريكا و”إسرائيل”، وعلى الانتصار لفلسطين ولكل المستضعفين في الأرض.
وهكذا، لم يكن المولد النبوي في اليمن مناسبة للاحتفال فقط، بل كان موقفاً وجودياً، وحدثاً عالميا، ورسالة عالمية، وملحمة إيمانية، واستفتاءً مفتوحاً على هوية أمةٍ قررت أن تمشي على خطى محمد، حتى النصر الموعود، وحتى قيام الساعة.