تقرير

اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية -وعبر تاريخها الطويل من الحروب والاحتلالات العابرة للقارات- شعارات الحرية لتخفي تحت عباءتها أنيابًا لا تعرف الرحمة، فمن أدغال فيتنام إلى سهول موزمبيق، ومن جبال كولومبيا إلى جزر الفلبين، تركت وراءها أرضاً مدمرة محروقة، وشعوباً مصلوبة، وأجيالاً ولدت على رماد الحروب التي أشعلتها يد لم تتردّد يوما في تحويل الأرض الخضراء إلى مقابر، والموارد إلى غنائم، والبشر إلى أرقام في سجلات القتل.
إنه التاريخ الذي لا يُكتب إلا بدماء الملايين، وصراخ الأمهات، ودموع المُهجَّرين، وركام المدن التي سقطت تحت وطأة القصف والنهب والتجريف، تاريخ يكشف أن الوحشية تُعَدُّ منهجًا راسخًا ونسقًا ثابتًا في السياسة الأمريكية، يطلّ بوجهه القبيح كلما تعلق الأمر بثروة تُنهب، أو دولة تُستباح، أو شعب يُعاقَب لأنه تجرّأ على أن يحلم بالحرية.

نماذج من الوحشية الأمريكية

بين عامي 1959 و 1975، أسقطت القوات الأمريكية ما يقرب من ثمانية ملايين وأربعمائة ألف طن من القنابل والنابالم، وثمانية عشر مليون برميل من المواد الكيميائية في فيتنام، ما أدى إلى تدمير أكثر من أربعين بالمائة من حقولها وحدائقها وغاباتها ومعظم مياهها.
قُتل عدة ملايين في فيتنام ولاووس وكمبوديا، وتعرض الملايين للتشويه أو التسمم، وشُرِّد ما يقرب من عشرة ملايين. ومن عام 1979 إلى التسعينيات، ساعدت أمريكا أعضاء من الخمير الحمر المجانين في كمبوديا على تقويض حكومة البلاد ذات الميول الاشتراكية، وأودت الحرب الأهلية هناك بحياة عشرات الآلاف.
أما في ما يتعلق باستهداف أمريكا لاقتصاد البلدان، فقد ضغطت على موزمبيق لخصخصة ما يقارب من 1500 شركة مملوكة للدولة، ما أدى إلى انتشار البطالة والفقر المدقع في البلاد، وإغلاق العديد من المصانع، وتقليلٍ كبيرٍ في الخدمات الإنسانية، وتصاعُدِ البطالة، والفقر، والجريمة، والتشرد، والدعارة.
كولومبيا دولة أخرى لها تاريخ من القمع الممول من الولايات المتحدة، بما في ذلك القتل المنظم لعشرات الآلاف من العمال والطلاب والمزارعين ورجال الدين على أيدي القوات المسلحة والميليشيات لمحاولتهم العمل ضد أسيادهم. فمنذ عام 1986م، قُتل حوالي 2000 نقابي كولومبي على أيدي فرق مدعومة من وكالة المخابرات المركزية. بالإضافة إلى الأسلحة والمروحيات، يزود الجيش الأمريكي هذه القوات بمواد لإسقاط أوراق الشجر تضر بالبيئة وشعب كولومبيا.


دفعت الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات للشرطة والجيش في دول مثل إندونيسيا ونيجيريا والهند وبورما وكولومبيا الأموال لضرب واعتقال وحتى قتل النشطاء العماليين أو الأشخاص الذين يحتجون على الأضرار البيئية وتشريد البشر.
في أواخر الثمانينيات، ساعدت إدارة الأمن القومي الأمريكية المكسيك في القضاء على العناصر الإصلاحية التقدمية، واعترفت السلطات المكسيكية بتعذيب وقتل ما لا يقل عن 275 من المعارضين السياسيين. وصفت إحدى الناجيات كيف تعرضت للاغتصاب والتعذيب، ثم أُجبرت على مشاهدة زوجها وابنتها البالغة من العمر سنة واحدة وهما يتعرضان للتعذيب.

تزوير الانتخابات

تلاعب وكلاء الولايات المتحدة -بشكل متكرر- بنتائج الانتخابات في جامايكا وتشيلي والسلفادور وبنما ويوغوسلافيا ودول أخرى باستخدام مبالغ كبيرة من المال، وتزوير الانتخابات وإثارة الخوف. وإذا كانت نتائج الانتخابات -على الرغم من كل هذه الجهود- لا تزال غير مرضية للقادة الأمريكيين، فسوف يزعمون أنها “مزورة” و “كذبة” (ولا يهم إذا قبل المراقبون الدوليون هذا الادعاء أم لا.). حدث هذا في نيكاراغوا الثورية في الثمانينيات، ويوغوسلافيا الاشتراكية في التسعينيات وعام 2000، وفي هاييتي المطالِبة بالإصلاحات عام 2000.
مثل هذه البلدان هي أهداف لعمليات زعزعة الاستقرار من قبل حكام الولايات المتحدة. بعد أن أصبح هوغو شافيز رئيسا لفنزويلا، استخدم عائداته النفطية للبرامج الاجتماعية للفقراء. وكما كان متوقعا، وصفه البيت الأبيض بأنه دكتاتور، ومثير للحرب، وعدو للولايات المتحدة، واتهمه بتحريف جهود أمريكا لإقامة علاقات ودية، وأقدمت أمريكا على الإعلان بأنه “رئيس غير شرعي”، واعترفت برئيس آخر دون إجراء انتخابات ودون أي مسوغ قانوني.

احتلال البلدان

في عام 1846م، وبغالبية أصوات مجلس الشيوخ، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على المكسيك، وبعد عامين من الحرب تم احتلال أجزاء كبيرة من أراضي المكسيك ومنها كاليفورنيا، إضافة إلى أجزاء من ولايات نوفودا وأريسيونا ووايومينغ وكولورادو والمكسيك الجديدة، وضمتها إلى الأراضي الأمريكية.
هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية هندوراس عام 1860م، وفي عام 1867م قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشراء ألاسكا من روسيا واعتبرتها أكبر ولاياتها، كما قامت الولايات المتحدة في عام 1881م،  بدعم البيرو في حربها ضد تشيلي، وأخذت في المقابل ميناء تشمبوت كقاعدة للقوات الحربية، إلى جانب مناجم الفحم وخطوط المناجم والميناء.


وفي عام 1887م ، قامت الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال جزيرة برل هاربر كجزيرة تحظى بدعمها، ثم حولتها إلى قاعدة عسكرية بحرية بدعوى “الحفاظ على التجارة”. و في عام 1893م أطاحت الولايات المتحدة بمَلك جزر هاواي، وأضافتها إلى أراضيها عام 1898 رسميا، وتدخلت في عام 1895 في فينزويلا.
في عام 1898 فقدت إسبانيا أغلبية مستعمراتها في القارة الأمريكية، إذ كانت كوبا وبورتوريكو مستعمرتين لإسبانيا، كانت كوبا قد شهدت ساحاتها ثورات داخلية للتخلص من الاحتلال، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية -وبشعار “الدفاع عن الديمقراطية”- دخلت حربا مع إسبانيا وقامت باحتلال بورتوريكو وكوبا وجزيرة غوام، ووفقاً لاتفاقية مع إسبانيا احتلت جزر فيليبين لقاء 20 ألف دولار.
استقلت كوبا، لكن بقي استقلالها حبرا على الورق، وكانت تعاني احتلال الولايات المتحدة الأمريكية العسكري عام 1902م، وفرضت الولايات المتحدة الأمريكية إصلاحا على دستور كوبا لتمكينها احتلالها متى ما شاءت “دعما للحرية”. وفضلا عن هذا فإن حقوق الاستئجار وشراء الجزر للقاعدة البحرية الأمريكية بقيت محفوظة لأمريكا.
إن شراء الولايات المتحدة الأمريكية واحتلالها للفيليبين يدل على هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية خارج إطار “مبدأ مونرو”، ذلك أن الفيليبين كانت تقع خارج النصف الغربي من الأرض وفي الجنوب الشرقي من آسيا والبحر الهادئ.


كانت الفلبين تنتج السكر ودهن الجوز الهندي، وتستهلك منتجات الولايات المتحدة الأمريكية. بعد الاحتلال وصل الإمبرياليون في الولايات المتحدة الأمريكية إلى نتيجة أن أهالي الفيليبين “أكثر تخلفا من أن يؤدي استقلالهم إلى تطورهم”، وهذا الأمر يرى النور بعد سنوات من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عليهم. كانوا قد حاربوا للاستقلال من إسبانيا، ويعارضون الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة، وكانوا يتوقعون بأن يعترف الأمريكيون باستقلالهم، فقاموا بتأسيس جمهورية الفيليبين عام 1899م، وأصبح إميليو أغينالدو قائدُ حروب التحرير رئيساً للجمهورية.
إن الولايات المتحدة الأمريكية -التي قامت بشراء الفيليبين بشعار “التحرير والديمقراطية”- أرسلت عام 1901م الجنرال مك آرثور كقائد عسكري إلى الفيليبين، وبعد ارتكاب مجازر بحق القوات المطالبة بالاستقلال اعتقل الرئيس، وقضي على حركة الاستقلال، وأثبت الأمريكيون بأنهم أكثر بربرية من الإسبان والاستعمار البريطاني. ووفقا للإحصائيات فإن ما يقارب 200 ألف من الفيليبين فقدوا أرواحهم في الحرب لأسباب مختلفة.
إن الأمريكيين -وبعد سنوات من قمع الحركة في الشمال- اتجهوا نحو مسلمي مورو في الجزر الجنوبية من الفيليبين، فمنذ عام 1903م أصبحت ولاية مورو تحت احتلال الولايات المتحدة الأمريكية، وتم تعيين ثلاثة عسكريين وحشيين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية كقادة لعشر سنوات.

ختاما:

حين نجمع خيوط هذا السجل الملطخ بالدم، ندرك أن الوحشية الأمريكية منظومة كاملة ترى العالم حقلا مفتوحا لتجارب القوة، فكل بلد ضعيف هو ساحة محتملة، وكل ثروة غير أمريكية هي مادة خام للنهب الأمريكي، وكل شعب يرفع رأسه أو يحلم باستقلاله يصبح هدفاً مشروعا للقنابل الأمريكية، أو العقوبات، أو الانقلابات، أو حملات التشويه التي تتستر برداء الحرية والديمقراطية.
إن تأمل هذا الإرث الدموي يفضح زيف الشعارات الأمريكية التي تتحدث عن حقوق الإنسان، فيما تحرق الدول العربية والإسلامية، وقبلها تحرق غابات فيتنام بالنابالم، وتدعم الميليشيات القاتلة في كولومبيا، وتغتال إرادات الشعوب في أمريكا اللاتينية، وتستبيح الفلبين والمكسيك وهاواي وغيرها باسم “التحرير”.
وليس أقسى من الاحتلال العسكري إلا الاحتلال السياسي والاقتصادي الذي ينهب الدول من الداخل، ويحوّل مستقبلها إلى ملكية كاملة للشركات متعددة الجنسيات، ويترك الملايين في دوامة الفقر والجوع والتشرد.

لقد أثبتت التجارب -الواحدة تلو الأخرى- أن أمريكا لا تعرف قيمة الإنسان إلا بقدر ما يخدم مصالحها، ولا تقف إلى جانب الأمة إلا إذا كانت أرضها ممرًا لأساطيلها أو سوقًا لثرواتها.
وما دام هذا النهج قائمًا، فإن شعوب العالم ستظل تتذكر دائمًا أن خلف وجه “الإمبراطورية” العصري هناك وحشية لا تهذّبها المؤتمرات، ولا يلمّعها الإعلام، ولا تخفيها لغة الدبلوماسية مهما تجمّلت.
وهذا التقرير ليس إلا مرآة تكشف ما حاولت أمريكا دفنه… مرآة تُعيد سرد الحقيقة كما عاشتها الشعوب المنكوبة: أن الوحشية الأمريكية لم تكن يومًا استثناء، بل كانت القاعدة.