تقرير | يحيى الشامي

 

أظهرت تحقيقات عسكرية أمريكية أن العمليات البحرية اليمنية كشفت عن فجوات خطيرة لدى البحرية الأمريكية، بعدما تكبدت خسائر فادحة، وكشفت عن ضعف غير مسبوق في جاهزيتها القتالية، في حين أثبتت التكتيكات اليمنية تفوقاً واضحاً قلب موازين السيطرة البحرية.

الكشف يؤكد حجم التحول الجذري في موازين القوة العسكرية في البحر الأحمر. وفي التحقيقات الرسمية الحصرية أن العمليات اليمنية ضد التحالف البحري أربكت البحرية الأميركية لدرجة كشفت عن فجوات قاتلة في جاهزيتها القتالية، وأجبرتها على خسائر فادحة.

ويتضمن الكشف إقرارات استراتيجية غير مسبوقة من بينها ما دفع البنتاغون إلى إطلاق قوة هجينة جديدة تعترف صراحةً بتفوق التكتيكات اليمنية.

وفقاً لتقارير صادرة عن معهد الدراسات البحرية الأميركي (USNI) في الرابع من ديسمبر 2025، فإن حاملة الطائرات “يو إس إس هاري إس ترومان” (CVN-75) تعرضت -خلال تسعة أشهر من العمليات قبالة اليمن- لأربع حوادث كبرى “كان من الممكن منعها جميعاً”، لكنها أسفرت عن خسائر بشرية ومادية فادحة، وثلاث طائرات مقاتلة من طراز “F/A-18 سوبر هورنت”، إضافة إلى أضرار بنيوية بالحاملة نفسها.

التحقيقات -التي غطت الفترة بين ديسمبر 2024 ومايو 2025- كشفت أن الحاملة ومجموعتها المرافقة كانت “تعمل بحدودها القصوى” في بيئة قتالية وصفتها مصادر أميركية بأنها “الأكثر تعقيداً وتكثيفاً منذ الحرب العالمية الثانية”، وعلى مدى 52 يوماً متواصلة – في إطار عملية “راف رايدر” – تعرضت المجموعة الهجومية لموجات متكررة من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية والمضادة للسفن، ما فرض ضغطاً تشغيلياً أدى – حسب اعترافات المحققين العسكريين الأمريكيين – إلى “إرهاق مزمن وحرمان من النوم” لدى البحارة.

وأقر مسؤولون عسكريون أميركيون كبار -في إحاطة صحفية أجريت في الرابع من ديسمبر- أن “البحرية الأميركية تعاني من نقص 18 ألف بحّار”، وأن البحارة على متن “ترومان” تكرر تعرضهم لنيران الطائرات المسيرة والصواريخ”، ما أنتج “حالة من الخدر لدى بعض أفراد الطاقم”، وفقداناً لـ”إدراك الهدف من الدور”. وبحسب التحقيق، وصف رؤساء الأقسام أجواء العمل بأنها “إنجاز” (survival mode)، في إشارة ضمنية إلى أن الكفاءة التشغيلية تآكلت تحت وطأة الضغط اليمني المستمر.

نيران صديقة وإخفاقات تقنية وقيادية

الحادثة الأولى في 22 ديسمبر 2024 كشفت عن فجوة كارثية في التنسيق والتدريب: أطلق الطراد الصاروخي الموجه “يو إس إس جيتيسبيرغ” (CG-64) صاروخي “ستاندرد ميسيل 2” على مقاتلتين أمريكيتين قادمتين للهبوط على متن “ترومان”، بعدما ظهرتا على شاشات الرادار أنهما أهداف “مجهولة” بسبب عطل في نظام التعريف الصديقة (IFF).

ووفقاً للتقرير فقد كانت سفينة جيتيسبيرغ تعمل بشكل منفصل عن المجموعة الهجومية بنسبة 85% من الوقت خلال الـ45 يوماً السابقة، ولم تشارك في اجتماعات التخطيط قبل مهمة 21 ديسمبر، كما كانت أنظمة تحديد الطائرات الصديقة معطلة غير مبلغ عنها، وعند تغيير المناوبات، لم يكن المراقبون الجدد على علم بأن مقاتلات الدفاع الجوي لا تزال في الجو، فأصدروا الأمر بإطلاق صاروخين، أحدهما أصاب الطائرة 107 التابعة لسرب “ريد ريبرز” (VFA-11)، ما أجبر قائدها وضابط أسلحته على القفز بالمظلات قبل تدميرها بالكامل، بينما نجت الطائرة 112 بمناورة مراوغة أخرى.

وقال قائد الطائرة 107 في روايته المنفصلة: “يا إلهي، هذا الأمر جنوني، لا أصدق أنهم يسقطون طائرة بدون طيار”، قبل أن يدرك في غضون ثوانٍ أنهما هدفان. أما قائد الطائرة 112 فقال: “مرّ الصاروخ على بُعد 100 قدم من طائرتنا، وهزّها. انفجرت الطائرة من يسارنا على سطح الماء”.

خلص التحقيق إلى أن “الإخفاقات في التخطيط والتنسيق” قبل العملية كانت السبب، وغادر قائد جيتيسبيرغ، الكابتن جوستين هودجز، السفينةَ بعد تغيير قيادتها في 30 يناير. كما قدمت البحرية تصحيحات برمجية لنظام “إيجيس” بكلفة 55 مليون دولار، مع اعتراف مسؤول كبير بظهور عيوب وبأن “شركاء الصناعة أظهروا التزاماً بتصحيح عيوب البرمجيات بسرعة”.

الحادثة الثانية في 12 فبراير 2025 كانت أكثر إحراجاً: اصطدمت “ترومان” بناقلة نفط تجارية “إم في بشيكتاش-إم” قبالة بورسعيد المصرية، ما تسبب في أضرار للرافعة والهيكل تكلفت إصلاحاتها 685 ألف دولار بعد إبحارها إلى خليج “سودا” باليونان.

تحقيق الأدميرال “تود ويلان” كشف سلسلة من الأخطاء القيادية المروعة: السفينة كانت تبحر بسرعة 19 عقدة في مياه مزدحمة، مع سجلات سطحية مسجلة بشكل غير صحيح، واتصالات غير فعالة، وعدم إرسال نظام التعريف التلقائي (AIS)، وفي الدقيقتين الأخيرتين تبين أن الملاّح “تنصل من مسؤوليته”، وأن قائد الحاملة الكابتن ديف سنودن “تخلى عن مسؤوليته في سلامة الملاحة” لصالح الملاح.

وقارن التحقيق الحادث بتصادمي “فيتزجيرالد” و”جون ماكين” عام 2017 اللذين أسفرا عن 17 قتيلاً، محذراً من أن “الفارق بين الحياة والموت كان بضعة أقدام أو ثوانٍ”، وكتب ويلان: “لو وقع الاصطدام على بُعد 100 قدم للأمام، لكان من المرجح أن يُسبب ثقباً في حجرة الرسو التي كان ينام فيها 120 بحاراً”، وأضاف: “تحدث فريقي مع هؤلاء البحارة الثمانية الذين كانوا على بُعد أقل من ثلاثة أمتار، ولن ينسوا أبداً كم كانوا على وشك فقدان حياتهم”.

وأعفت البحرية “سنودن” بعد أسبوع من التصادم، فيما رفضت الإدارة الأمريكية الكشف عن إجراءات مساءلة أخرى، قائلة: “أؤكد لكم أنه تم اتخاذ إجراءات مساءلة بحق جميع المشغلين المتورطين… لا نشعر بأي التزام بنشر هذه النتائج للعالم”.

مناورات طارئة تفقد المزيد من الأصول

الكشف تضمن  تفاصيل أخرى عن الخسائر التي مُنيت بها البحرية الأمريكية، ففي 18 أبريل -أثناء مناورة مراوغة قياسية لمواجهة صاروخ باليستي يمني- انزلقت طائرة “سوبر هورنت” من حظيرة الطائرات رقم 3 وسقطت في البحر مع جرار سحْبِها التابع لسرب “نايت هوك” (VFA-136)، بقيمة إجمالية 36 مليون دولار.

تحقيق الكابتن دوغلاس إيفاناك كشف أن السفينة زادت سرعتها من 15 إلى 30 عقدة ثم انعطفت بزاوية 15 درجة، ما أدى لميلها بشكل أسرع، وكان فريق الحظيرة قد أزال دعامات العجلات وسلاسل التثبيت. شهود عيان وصفوا الإطارات بأنها “تتدحرج بِحُرّية” رغم محاولة سائق الفرامل إيقافها. كما وجد التحقيق أن طلاءَ مضادِ الانزلاق في الحظيرة لم يستبدل منذ يناير 2018، وكان “زليخاً”، وأن ضعف التواصل بين القيادة والحظيرة ساهم في الحادث.

الحادثة الرابعة في 6 مايو كان “من الممكن منعها بالكامل”، بحسب توقيع الأدميرال شون بيلي. أثناء هبوط طائرة “سوبر هورنت” ذات المقعدين التابعة لـ VFA-11، انقطع سلك التثبيت المثبت في ذيل الطائرة، ما ألقاها في البحر الأحمر.

تحقيق الأدميرال بيلي كشف أن مُخَمِّد البكرة (hydraulic arresting gear) في محطة الاسترداد رقم 4 كان معطوباً بسبب عدم تركيب غسالة مناسبة بين صامولة القفل ودبوس الوصلة، ولم تُستعَد الغسالة من مكانها، ما يشير إلى أن العطل حدث قبل أيام أو أسابيع، رغم إجراء صيانة في 5 مايو وفحص قبل التشغيل، فشل الطاقم في ملاحظة العطل.

وقبل لحظات من الحادث، كان ضوء جاهزية المخمد يومض بالأصفر والأخضر، لكن المشغل المسؤول عن إعلان “Foul Deck” حاول إصلاحه بدلاً من إيقاف العملية. وأصيب مشغل المخمد بجروح طفيفة بعدما فتح قفص الأمان قبل لحظاتٍ مُخالفاً الإجراءات.

كما كشف التحقيق أن برنامج ضمان الجودة في القسم كان “غير فعال”، حيث لم يُشغل سوى منصب واحد من ثلاثة، وأن مشرف ضمان الجودة لم يكن يراقب تدريب الموظفين، ما أدى إلى “ثقافة صيانة دون المستوى”. وكان القسم يعاني نقصاً في الموظفين (34 بحاراً فقط، مقابل 50 في بداية الانتشار).

الإرهاق يقتلع التأهيل والكفاءة

التقارير مجتمعة كمحصلة للتحقيقات المطولة التي أجرتها البحرية الأمريكية، ترسم صورة لحاملة طائرات كانت تتعرض بشكل متكرر لهجمات يمنية أربكت الطاقم، إلى جانب متطلبات تشغيلية ضغطت بقوة على القادة، حتى وصل الأمر بقائد السفينة وملاحِهِ إلى “حالة حرجة”. وبحسب شهادات داخلية، فإن “العمليات القتالية المكثفة أدت إلى حالة من الخدر لدى بعض أفراد الطاقم”، وأن “عدة عناصر وصفوا وتيرة العمليات بأنها أحد أبرز التحديات” لفرق الصيانة.

وأقرّ خبراء أمريكيون بأن البحرية “طلبت من سفنها أكثر مما تستطيع تحمله”، فيما بدا أن الضباط والبحارة يعانون إرهاقاً مزمناً وحرماناً من النوم، ما أدى إلى “تقديرات خاطئة كارثية”، وقال المسؤول الكبير في البحرية: “لدينا 18,000 فجوة في البحر، ونعمل جاهدين على تجاوزها”، مضيفاً: “لا يُرخص قادة الأساطيل للسفن بالانتشار إلا إذا كانت مُجهزة ومدربة… لكن هذا لا يعني أننا لن نُعرّض هؤلاء البحارة لمواقف صعبة”.

الاعتراف الاستراتيجي: “سكوربيون سترايك”

وفي تطور تاريخي متصل بالمشهد اليمني وتداعيات الاشتباك الأخير، وهو تطوّر لاشك لم يسبق له مثيل، أقرّت الولايات المتحدة رسمياً بهزيمة نموذجها التقليدي، وأعلنت قبل أيام عن تشكيل قوة مهام “سكوربيون سترايك” – وهي وحدة عسكرية جديدة تمثل انقلاباً استراتيجياً كاملاً في الفكر الدفاعي الأمريكي، مستمد ومستفاد من التجربة اليمنية.

تُشكل “سكوربيون سترايك” تكتيكاً عسكريا جديدا، كما أنها تمثل إعادة صياغة لمنهجية الحرب الإلكترونية، مستوحاة مباشرة من تجربة أمريكا المريرة في المواجهات الأخيرة مع القوات المسلحة اليمنية. فبعد أربعة أشهر فقط من توجيه وزير الدفاع بيت هيغسيث بتسريع اقتناء التقنيات المسيرة منخفضة التكلفة، أوكلت المهمة إلى شركة “سبيكتر ووركس” الأمريكية المتخصصة، بينما يقود العمليات أفراد من القيادة المركزية للعمليات الخاصة.

تُمثل هذه الخطوة التطبيق العملي لإعلان نائب الرئيس الأمريكي عن استراتيجية دفاعية جديدة، بعد أن كبدت المواجهات في البحر الأحمر ومنطقة الشرق الأوسط الولايات المتحدة “مليارات الدولارات”، في مقابل استخدام خصومها تقنيات منخفضة التكلفة وعالية الفعالية، أجبرت واشنطن على إعادة حساباتها بالكامل.

تفاصيل البنية التنظيمية والتكنولوجية:

تتكون فرقة المهام من سرب متكامل من طائرات “لوكاس” المسيرة – وهي أول سرب أمريكي من نوعه في المنطقة، ويعمل بشكل مستقل – صُممت هذه المنظومة عبر “الهندسة العكسية” للطائرة الإيرانية “شاهد-136″، وبالاستفادة من أساليب المواجهة اليمنية التي مثلت هي الأخرى ثورة في مجال الحروب غير المتكافئة.

وبخلاف الوحدات التقليدية، تعمل “سكوربيون سترايك” كوحدة ذاتية القيادة، تتمتع بمرونة هجومية ودفاعية تستند إلى الدروس المستقاة من “نموذج اليمن” في استخدام الطائرات المسيرة كأدوات استنزاف استراتيجي. وتؤكد المصادر أن القوة الجديدة لن تعتمد على حاملات الطائرات التقليدية، بل على منصات إطلاق متحركة ومحمولة، ما يزيد من صعوبة اكتشافها واستهدافها.

الاعتراف بالتفوق المنافس

يُمثل هذا التحول اعترافاً ضمنياً علنياً بأن قطاع الدفاع الأمريكي تخلف عن مواكبة التكنولوجيا الرخيصة والفعالة، وأن النموذج اليمني في الحروب طويلة الأمد نجح في إجبار أكبر قوة بحرية على تغيير عقيدتها القتالية. وبحسب مسؤولين في البنتاغون، فإن “سكوربيون سترايك” تأتي كرد فعل مباشر على “النجاح غير المتوقع للتهديدات المنخفضة التكلفة” في إرباك منظومات الدفاع الأمريكية الباهظة.

وتعكس الخطوة “فشل النموذج التقليدي المعتمد على الأسلحة فائقة التكلفة”، وتبرز “الحاجة الملحة لإعادة هيكلة القوات لتتلاءم مع تهديدات الحروب الحديثة”، كما ورد في التقرير الأصلي.

ولم تعد “سكوربيون سترايك” مجرد قوة عسكرية، بل هي “رسالة استراتيجية واضحة: أن زمن التفوق التكنولوجي المطلق قد انتهى، وأن المستقبل يتطلب التكيف مع واقع جديد، حيث الإبداع والكفاءة التكلفوية يتفوقان على السيادة التقنية التقليدية”.

 استنزاف استراتيجي بامتياز

تشير التحقيقات إلى أن ما حدث في البحر الأحمر لم يكن مجرد سلسلة أخطاء معزولة، بل نتيجة مباشرة لتكتيكات يمنية عالية الفاعلية أربكت السفن الأميركية رغم تفوقها التكنولوجي. ومع كل حادثة، تتكشف حقيقة صادمة للولايات المتحدة، تتمثل بأن قدرات اليمنيين الهجومية والدفاعية أثبتت قدرة على اختراق منظومات البحرية التي تدعي أنها الأقوى في العالم، وإجبارها على العمل في ظروف قاسية تفوق طاقتها.

وحسب محلّلين عسكريين، فإن الضغط التشغيلي الهائل الذي فرضته القوات اليمنية كشف “هشاشة الجاهزية الأميركية”، وعدم قدرة البحرية على الاستمرار في قتال طويل المدى. وقال خبراء إنه “رغم ضرورة محاسبة المسؤولين، فإن بعض هذه الحوادث ناتج عن مطالبة البحرية نفسها بأكثر مما تستطيع تحمله”، مشيراً إلى أن “التهديد الجوي اليمني كان كافياً لإحداث ضغط كبير”.

القوات اليمنية تقود التحوّل الكبير

لم تعد هذه الحوادث مجرد “أخطاء بشرية”، بقدر ما هي شهادة أمريكية رسمية معلنة على أن القوات اليمنية نجحت في فرض بيئة قتالية مرتدة، أجبرت أكبر قوة بحرية على العمل في ظروف “تفوق طاقتها”. وكما قال خبراء عسكريون أمريكيون، فإن “ترومان” كانت “تعمل عند حدودها القصوى”، فيما يشكل “جرس إنذار” للبحرية حول “مخاطر إرهاق السفن والطاقم”.

وبالتزامن مع التحقيقات، تؤكد واشنطن من خلال “سكوربيون سترايك” أن المستقبل يتطلب “التكيف مع واقع جديد”، حيث “الإبداع والكفاءة التكلفوية يتفوقان على السيادة التقنية التقليدية”. وهو ما يعكس، في النهاية، أن التطور الهائل الذي شهدته القوات المسلحة اليمنية تجاوز التقديرات الاستخباراتية، وكرّس حقيقة ميدانية فرضت نفسها على أعلى المستويات العسكرية الأميركية، وباتت محل دراسة في الأكاديميات العسكرية الغربية كـ”نموذج للحرب غير المتكافئة” حقق ما لم تستطعه أكبر الجيوش تسليحاً وتدريباً.