عطاء الشهداء: وقود الثبات وقوة الإرادة والاستعداد العالي للتضحية
إن تعظيم الشهادة ليس “ثقافة موت” كما يروّج له الأعداء وذيولهم، بل هو ثقافة الحياة الحقيقية الكريمة التي تبني الأمة من خلال تطهيرها من عقدة الخوف والوهن. فكما يبيّن السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي في كلمته بمناسبة تدشين ذكرى الشهيد، فإنَّ الشهداء لم يخسروا حياتهم الدنيا، بل فازوا فوزاً عظيماً بانتقالهم إلى حياة أسعد وأهنأ وأرقى في ضيافة الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
إنَّ الأُمَّة التي تتحرَّك وهي تحمل روحية الجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وروحية الشهادة؛ تعتز، وتدفع عن نفسها المخاطر، تتحرَّك بإرادةٍ قوية، باستبسالٍ عظيم، بثباتٍ كبير، فتبني نفسها حتى بما تقدِّمه من الشهداء في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي في إطار تحرُّكٍ فاعلٍ ضد أعدائها، تحقق لنفسها الحياة بعزَّة، حياةً حقيقة، حياةً كريمة، حياةً بكرامةٍ إنسانية، وعزَّةٍ إيمانية، ومَنَعَةٍ في مواجهة الأعداء؛ فهي حياةٌ للأُمَّة، ووقايةٌ لها من الفناء مع الذل، فهي لا تقابل ثقافة الحياة لأنها حياة؛ وإنما تقابل ثقافة التدجين للأُمَّة، لتكون ذليلةً خانعةً لأعدائها، ولا تسلم، ولا تسلم من الموت ولا من القتل؛ ولهذا ضرب الله مثلاً مهماً في القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}[البقرة:243]؛ ليجعل من ذلك درساً لغيرهم.
إن هذا الامتياز الإلهي، يمثل مواساة لذوي الشهداء، ويُعدّ تحفيزاً كبيراً جداً على الجهاد والاستبسال، محطماً أخطر العوائق النفسية التي يستخدمها الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة لإخضاع الشعوب: عقدة الخوف من القتل. فالأعداء، الذين يوظفون القتل والاستهداف كوسيلة للإذلال والاستعباد، يصطدمون بهذا الجدار الإيماني الفولاذي الذي يُحرّر المجاهد من الرهبة، فيقلب المعادلة ويدفع إلى انطلاقة بجرأة وثبات غير مسبوقين.
يقودنا خطاب السيد القائد إلى فضح استراتيجية التدجين التي تهدف إلى تحويل الأمة إلى كيان ذليل خانع يقدم القرابين هدرًا وعبثًا في غير قتال مجدٍ. ويؤكد السيد القائد أن التخلي عن الجهاد والاستسلامَ للوهن لم يجلب السلامة، بل أدى إلى إبادات جماعية وتاريخ مظلم من القتل، كما حدث على يد المغول في بغداد، حيث قُتل مليون إنسان في حالة استسلام تام، أو كما حدث في حملات الصليبيين.
واليوم، تستمر هذه الإبادة بأشكال أخرى، حيث يشير السيد القائد إلى اعترافات أمريكية بقتل ما يقارب ثلاثة ملايين من أبناء الأمة في العقدين الماضيين، معظمهم في غير قتال، في غير موقف. وهنا يبرز التساؤل: ماذا لو كانت هذه التضحيات الهائلة (ثلاثة ملايين شهيد) في إطار جهاد ودفع لخطر الأعداء؟ لكانت المعادلة مختلفة بالكامل، ولتحولت هذه الدماء إلى نصر وعزة وتمكين، بدلاً من أن تكون فناءً لغير ثمرة.
في السياق، يلفت خطاب السيد القائد إلى أن ألد الأعداء اليهود (الذين وصفهم الله في القرآن بأنهم {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا}) يتحركون بمخططهم الصهيوني ومعهم أذرعهم العالمية وفي مقدمتها أمريكا وشركاؤها. إنَّ استهداف الكيان الإسرائيلي للشعب الفلسطيني في غزة والضفة -بما يتضمنه من إجرام موثق كإعدام الأسرى والسحق بجنازير الدبابات وسرقة أعضاء الجثامين- يكشف عن عدو متجرد من كل القيم الإنسانية.
هذا الإجرام الموصوف يرافقه مسار آخر من العدوان الخفيّ: أسلوب الترويض والتهيئة النفسية لقبول العدو بكل جرائمه تحت عنوان “التطبيع”. ويتمثل هذا في حملات التشويه المكثفة التي يشنها المنافقون والعملاء الموالون لأمريكا و”إسرائيل”، حيث يتم وصم كل موقف عدائي ضد الكيان الإسرائيلي بأنه تنفيذ لما يسمى “المشروع الإيراني”، بينما يُشجَّع الإجرام والفتن الداخلية -كما هو الحال في السودان- في محاولة يائسة لتغيير بوصلة العداء عن العدو الحقيقي.
ويشير السيد القائد إلى أن الجهاد في سبيل الله هو المسؤولية المقدسة الوحيدة لحماية الأمة من الفناء والذل، وليس الاستسلام والمساومة، مشيرًا إلى أن التجارب الواقعية للمسيرة القرآنية تثبت أن تضحيات الشهداء لم تكسر الإرادة، بل زادت الأمة عِزّاً، وتمكيناً، ونصراً. فالنصر الحقيقي، الذي وعد به الله ({إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ})، هو ثمرة التحرر الإيماني من خوف الموت، والانطلاق في مواجهة الصراع الحتمي الذي فرضته قوى الشر الطاغية على واقع الأمة. مؤكداً إنَّ المسار المقاوم يُعدّ استثمارًا للرحيل المحتوم في هذه الحياة، حيث يغدو الموت شهادةً أرقى وأسمى، وهو ما يُبقي الأمة حية كريمة وعزيزة. وعلى الأمة أن تستمر في البناء على أساس الاستعداد للجولة القادمة، لأن الوعي بالعدو الحقيقي ورفض الخنوع والتطبيع هما الخطوات الأولى نحو استعادة كرامتها الإنسانية وحقوقها المشروعة، كما يثبت التاريخ وواقع المجاهدين اليوم.
في السياق، ومع استمرار محاولات الإخضاع الأمريكي وتواطؤ أدواته الإقليمية، لم يأتِ إحياء الذكرى السنوية للشهيد 1447هـ في اليمن كتعبير عن مناسبة استذكار موسمية، بل تحوّل إلى تجسيد للعظمة وعملية تحصين وجودية للجبهة الداخلية، ضارباً بعرض الحائط استراتيجيات العدوان الرامية إلى استنزاف الإرادة وكسر شوكة الصمود. إنّ الشعارات المدوّية (شهداؤنا عظماؤنا، وفاءً لدماء الشُهداء، التعبئة مُستمرة والجهوزية عالية) والتي ترفعها وقفات النفير العام في أرجاء اليمن ليست مجرّد حبر على ورق، وإنما بيان عملي صريح مفاده أنَّ الإرادة اليمنيّة المُتشبّعة بثقافة الشهادة قد بلغت مرحلة من الوعي تجعلها قادرة على تحويل التضحية بأغلى ما يملك الإنسان إلى أعلى مراحل القوة السياسية الرادعة.
النفير العام، والجهوزية القبلية المسلحة، ومفهوم الشهادة كبيع مربح مع الله، هي جميعها أدوات فعالة في تفكيك حسابات القوة المادية للغطرسة الأمريكية-الصهيونية، بل وترسخ معادلة ردع جديدة لا تقبل التراجع عن قضية الأمة المركزية، فلسطين، ولا عن قوة الموقف التفاوضي للقيادة الثورية والسياسية ضد أي إملاءات خارجية، مُعلنةً إنّ القوة التفاوضية تُستمد من قدرة الشعوب على الاستمرار في دفع ثمن العزة والكرامة.
يؤكد المحتشدون في الساحات والميادين، والذين يملؤون ساحات العزة والكرامة كل يوم في أمانة العاصمة والمحافظات الحرة على أن هذا الحراك ليس وليد اللحظة، بل هو تجسيد لـثقافة متجذرة أفرزت -على مدى سنوات العدوان- قوةً صلبة لا تتزعزع، وهي القوة التي تتجسد اليوم في الإسناد المُطلق لغزة، باعتباره خياراً إيمانيا لا حياد عنه، وفي الوقت ذاته، تحذيراً قاطعاً للعدو الأمريكي والكيان الإسرائيلي وأدواتهما من مغبة أي تصعيد أو عودة إلى “المربع الإقليمي” للحرب.
إنَّ جوهر هذه التعبئة العارمة التي تزامنت مع ذكرى الشهيد هي ترجمة للفهم الصحيح لمقام الشهادة كمرتكز وجودي يُعيد صياغة المعادلة الداخلية والخارجية لليمن. هذه المناسبة لتثبيت اليقين الراسخ بأنَّ الجهاد والشهادة هما الطريق الحصري نحو العزة والسيادة المطلقة. هذا الوعي الإيماني الجذري هو الذي منح اليمن القدرة الفريدة على تحويل تحديات العدوان والحصار إلى فرص لبناء القدرات العسكرية والخبرات السياسية الرادعة.
لقد أثبتت التجربة أنَّ البلد الذي بنى إرادته في صميم العاصفة الهوجاء لا في ظلّ السبات، هو وحده القادر اليوم على فرض معادلة الردع الصارمة ضد أعتى قوى الاستكبار العالمي. إنَّ الإيمان بعظمة مقام الشهادة هو الذي يُفسّر كيف استطاع اليمن تحييد التفوق التقني للغطرسة الأمريكية والكيان الإسرائيلي في ساحة المواجهة، وهو ما تجلّى بوضوح خلال عامين من الإسناد المباشر والفعّال لغزة، مُثبتاً أنَّ الإرادة والمنطلقات الإيمانية تتفوق على أوهام القوة التكنولوجية الزائلة.
الشهداء في الوجدان اليمني هم أيقونات خالدة يُنظر إلى مقامهم أنه أعلى مقامات التشريف الإلهي والحياة الأبدية “أحياء عند ربهم يرزقون”. هذا اليقين المتبلور يُفضي عملياً إلى كسر حاجز الخوف من الفناء لدى المقاتل اليمني، ما يجعله يتقدم في المعركة بعزيمة لا تلين، ويمنح المجتمع -ككلّ- القدرةَ على تحمّل الخسائر، مُثبتاً للعدو عدم جدوى استراتيجية الإخضاع بالقوة أو الاستنزاف. إن دماء هؤلاء الأبطال ستبقى منارة تهدي الأجيال نحو العزة والكرامة، هي الصخرة الصلبة التي تحطّمت عليها آمال العدوان في إسقاط الإرادة الوطنية، أو شلّ القدرة القتالية بفعل الحصار.
