في وداع قادته الشهداء.. اليمن يجدّد العهد بالانتصار لفلسطين
تقرير |
على وقع صرخات الغضب، ودقات القلوب التي تأبى الانكسار، خرجت صنعاء بكل هيبتها لتحتضن موكب الوداع، حيث امتزجت دموع الفخر بالعزيمة، وتحولت الجراح إلى مشاعل نور تضيء درب الأمة. لم يكن المشهد مأساوياً بقدر ما كان ملحمياً؛ إذ حينما ارتقت أرواح رئيس الحكومة وتسعة من وزرائه بفعل الغارات الإسرائيلية الغادرة على العاصمة، بدا وكأن اليمن يكتب بدمائهم عهداً جديداً مع التاريخ: أن لا رجعة عن طريق القدس، مهما كان الثمن.
لم يُركع الشعب اليمني، بل خرج متحدياً، رافعاً صوته بالحق، مردداً أن هذه التضحيات ليست سوى بداية طريق طويل من المواجهة. غارات العدو -التي أرادت كسر الإرادة- لم تزد اليمنيين إلا صلابةً، بل تحولت إلى وقودٍ جديد يعمّق الإيمان بضرورة التصعيد، وبأن المعركة لم تعد مجرد تضامن مع غزة، بل صارت معركة وجود وكرامة ومصير مشترك.
في زمنٍ يختبر فيه العالم معنى الشرف، قرر اليمن أن يكون في مقدمة الصفوف. لم يساوم، ولم يهادن، ولم يحسب خطواته بميزان السياسة الباردة، بل خطا بدمائه إلى ساحة الفعل، قائلاً: إن ثمن الموقف -مهما غلا- يبقى أقل بكثير من ثمن السكوت أمام العدو الإسرائيلي. فالصمت خيانة، والحياد جريمة، أما الكلمة الصادقة فتصير سيفاً، والدم الزكي يتحول إلى وعدٍ بالنصر.
لقد حدد اليمن موقفه، واتخذ قراره بوعي لا رجعة فيه: الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني حتى يتوقف العدوان ويُكسَر الحصار. ومن لم يعرف اليمن بعد، ها هو يرى كيف أن شعباً محاصراً لم يتردد في تقديم خيرة شبابه وقادته على مذبح الكرامة، لتختلط الدماء الفلسطينية بالدماء اليمنية، في قضية واحدة، أمام عدو الأمة.
وهو ما أكد عليه الرئيس مهدي المشاط أن العدو الإسرائيلي لن يتمكن من كسر صمودنا، لأننا مع الله وفي سبيله، يُفرغ علينا الصبر، ونستمد منه القوة، ويمنحنا الثبات، فالغارات لن تخيفنا، و التهديدات لن ترعبنا، وعهدنا لله والشعب اليمني العزيز وأسر الشهداء والجرحى أننا سنأخذ بالثأر، وسنصنع من عمق الجراح النصر، فقواتنا المسلحة في موقع الاقتدار، و ما حصل عليه العدو ضربة حظ ليس أكثر من ذلك.
تشييع الشهداء لم يكن مراسم عزاء، بل كان إعلاناً صريحاً أن اليمن لا يعرف الانكسار. آلاف الحناجر هتفت: “القدس أقرب”، وعيون الأطفال كانت تلمع كما لو أنها تحرس وعد الأجداد بأن المعركة ستستمر. والرجال شدوا قبضاتهم، والسماء امتلأت بصلابة العزم، حتى بدا المشهد وكأن الشعب كله تحول إلى جيشٍ من نار.
مهما حاول العدو الإسرائيلي أن يرسم الخوف بالقصف والدمار، فإنه لم يفلح سوى في رسم ملامح هزيمته القادمة، على وجوه اليمنيين. فما زادهم القصف إلا يقيناً، وما زادتهم الشهادة إلا اندفاعاً، وما زادهم الفقد إلا صبراً وثباتاً. ولأنهم أبناء مدرسة القرآن والتاريخ، فهم يدركون أن الطريق إلى القدس لا يُعبّد إلا بالدماء، وأن الانتصار لا يولد إلا من رحم التضحيات الكبرى.
اليمن اليوم يكتب صفحة ناصعة في كتاب الأمة. لا يقاتل من أجل حدودٍ ضيقة، ولا يواجه من أجل وطنه فقط، بل من أجل أن تبقى القضية الفلسطينية حية، ومن أجل أن ينهض وجدان الأمة من سباته الطويل. لقد قرر أن يحمل السلاح والراية في آنٍ معاً، وأن يعلن للعالم كله أن زمن الاستكانة قد ولى، وأن الشعوب لا تُركع، مهما عظمت التضحيات.
أجل، مهما كان الثمن، ومهما ارتقى من الشهداء، فإن اليمني أقوى من كل التحديات، أصلب من غارات العدو، وأكبر من كل محاولات الترويض. فاليمن لا يشيع شهداءه ليدفنهم في صمت، بل يشيعهم ليقِيْمَ من دمائهم جسراً يعبر به نحو القدس. ومن هنا، من قلب صنعاء، تعلن الأمة كلها أن المعركة مستمرة، وأن الوعد بالنصر آتٍ، وأن من وقف مع غزة بدمه لن يتراجع حتى تتحرر الأرض، وتعود الكرامة إلى موطنها الأول.
والمعركة -كما حدد ملامحها رئيس هيئة الأركان العامة اللواء الركن محمد عبدالكريم الغماري- هي أن “العدو بجريمته قد فتح أبواب الجحيم على نفسه، وسيكون رد قواتنا المسلحة قاسيا ومؤلما، وبخيارات استراتيجية فاعلة ومؤثرة بإذن الله تعالى”. مضيفا “إننا ماضون في تطوير قدراتنا العسكرية الاستراتيجية كما وكيفا، وسيسمع الشعب اليمني في القريب العاجل ويشاهد ما تقر به أعينهم، ويشفي صدورهم، وعلى الباغي تدور الدوائر”.
إلى المقاومين في زمن الانكسار، الواقفين على بوابة القدس، ها هو اليمن يقدّم للعالم درساً جديداً في معنى العزة والوفاء. لقد أراد العدو الإسرائيلي أن يكسر الإرادة بضربة غادرة على صنعاء، فما زادت الغارات صنعاء إلا صلابة، وما أطفأت سوى أوهام العدو.
اليمن اليوم يشيّع شهداءه لا بالدموع، بل بتجهيز الصواريخ. لقد ارتقى القادة شهداء، لكن اليمن كلّه أصبح قائداً. صارت الجموع بحراً لا ينضب، وصار الصوت أقوى من القصف، وصار العزم أصلب من الدمار. الشعب الذي لم يركع للحصار، لن يركع أمام الطائرات، ولا أمام النار. بل يواجه النار بالنار، ويقابل القصف بالتصعيد، ويعلنها للعالم: لا استسلام، لا خنوع، ولا تراجع، حتى يتحقق النصر وترتفع رايات القدس محرّرة.
إن ثمن الموقف أقل بكثير من ثمن الصمت، وإن دماء شهدائنا قد امتزجت بدماء فلسطين. اليمن اليوم ليس مجرد متضامن، بل مقاتل متقدم في صفوف الأمة، يفتح بجسده ودمه طريق العودة، ويكتب على ركام صنعاء رسالةً للأجيال: “من باع نفسه لله لا يُهزم، ومن قدّم شبابه للقدس لا يموت.” مهما عظمت التضحيات، فإن اليمن أقوى. ومهما كثرت الغارات، فإن الشعب أصلب. لقد قرر اليمن أن يكون شوكة في حلق الكيان الإسرائيلي، وجرس إنذار لأمريكا، وشعلة توقظ كل الغافلين. إن معركة غزة لم تعد معركة الفلسطينيين وحدهم، بل أصبحت معركة أمةٍ بأكملها، واليمن في طليعتها، يفتح الطريق بالدم ويزيّن سماء المقاومة بالصواريخ والطائرات.
إن الشعب اليمني يؤكد اليوم من جديد أنه لن يعود أدراجه، لن يساوم، ولن يخضع. فالشهداء هم الوعد بالنصر، ودماؤهم هي جواز العبور إلى القدس. لقد اختار اليمن موقعه في التاريخ، واختار قدره بوعي وبصيرة: أن يكون حيث يجب أن يكون، في خندق فلسطين، في مواجهة الكيان الإسرائيلي، في ميدان الشرف.
كل جموع اليمن تهتف: لن تُرهبنا الغارات، ولن تكسر إرادتنا. فاليمن -قيادةً وشعباً- ماضٍ في طريق القدس، حتى آخر قطرة دم، وحتى آخر نفس، وحتى تتحقق الوعود بنصر الله المبين.