كيف استطاع النبي الأعظم أن يصنع تغييراً مفصلياً في التاريخ؟
قبل مبعث الرسول “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم” كان العالَم بكله في شتى أنحاء الأرض يعيش جاهليةً جهلاء، تعاظم فيها الضلال، واشتد العمى، وطغت الحيرة والتيه، واستحكمت فيها هيمنة القوى المستكبرة بقوتها وجبروتها. تُضِل وتظلم، وتضاءلت في الأرض دائرة النور، وأطبق عليها ظلام الجهل بالحق والحقيقة، وظلام الخرافة، وظلام الباطل، والفساد، وامتلأت ظلماً وجوراً وعدواناً، وفقدت البشرية الوعي بهدف وجودها المقدس، ومسؤوليتها في الحياة، وأصبح الإنسان تائهاً لا يعي دوره، ولا يحمل من اهتمامٍ إلا أن يأكل ليعيش وأن يعيش ليأكل، كالأنعام السائمة.
وتمكن المجرمون المستكبرون المتسلطون الجائرون من أن يجعلوا من الخرافة عقيدة، ومن الانحراف والفساد سلوكاً وعادة، ومن الجهالات والأباطيل عاداتٍ وتقاليد، وحرموا حلال الله، وأحلوا حرامه، وأشركوا به، وبلغوا بإضلالهم لعباد الله وتوحشهم إلى تفريغ الإنسان من عاطفته الإنسانية، أوصلوهم إلى أن يباشر الأب ذبح طفله وقتل مولودته: إما خوفاً من الفقر، أو احتساباً لها منقصة.
وتحولت كل تلك الخرافات والمفاسد والجهالات إلى معتقدات يقدسونها، ويدينون بها، ويتشبثون بها أشد تشبث، وعاداتٍ يتعصبون لها، تطبعت عليها أجيال، يموت عليها جيل، ويحيا عليها جيلٌ آخر، وطغت على حياة الناس واستحكمت وتمكنت، حتى أصبحت مسلمات وثوابت، مع كل ما ترتب عليها ونشأ من خلالها من نتائج سيئة في واقع الحياة، من عناءٍ وشقاءٍ، وقهرٍ وظلمٍ، وشتاتٍ وفرقةٍ، وتناحرٍ ونزاعٍ، وبؤسٍ وضعةٍ.
مع حاجة المجتمع البشري إلى التغيير، إلا أنها مهمة لن تكون سهلةً تجاه واقعٍ وصل إلى هذا الحد، وفيه قوى الطاغوت تحمي وترعى ذلك الانحراف، وتزيد منه، ومعالم رسالة الله تعالى في الأنبياء والرسل السابقين انمحت معالمها في منتسبيها، فأضاعت اليهود معالم رسالة الله تعالى إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل، وأضاعت النصارى ميراث عيسى من الهدى والأخلاق.
ولم يتبقَ للجميع إلا طقوسٌ وشكليات مفرغةٌ من كل معنى، وفاقدةٌ لأي تأثير، وأصبحوا جزءاً من الواقع، لا صالحين ولا مصلحين، بل منحرفين ومحرفين، ضالين ومضلين، فاسدين ومفسدين، وحولوا كتب الله إلى قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، وحولوها إلى عباراتٍ مكتوبة معطلةٍ عن التنفيذ، وموقوفةٍ عن الاهتداء بها والعمل بما فيها، وحرفوها؛ سعياً منهم إلى تحويلها إلى وسائل للتضليل بها، والافتراء على الله الكذب باسمها، فضلوا، {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: من الآية77].
قبل بعثة النبي الأكرم، وفي ذروة استحكام قبضة الطاغوت وسيطرة المستكبرين، تحرك أصحاب الفيل بهدف القضاء على ما يرونه تهديداً مستقبلياً، فالآثار والأخبار والمؤشرات قد عرفوا منها أن مبعث النور والخلاص آتٍ بقدوم خاتم الأنبياء من مكة البيت الحرام في ذلك العام، فتحركوا بجيشهم، يريدون السيطرة المباشرة، ووأد المشروع الإلهي في مهده، والقضاء على مستقبل الرسالة الإلهية، تماماً كما فعل فرعون في سعيه للحيلولة دون المشيئة الإلهية في أمر موسى “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ففشل وخاب، ويسعون أيضاً إلى هدم الكعبة بيت الله الحرام المقدس، ومعلم الشعائر الدينية، والرمز المتبقي في اجتماع كلمة العرب -آنذاك- على تقديسه، مع اختلافهم في كل أمورهم الأخرى، وفي مقدمة جيشهم اصطحبوا فيلاً؛ ليرعبوا به العرب، ويخيفوهم بهذا الكائن غير المألوف لديهم، والحيوان الكبير الذي رأى فيه الكثير أنه أمرٌ لا يقاوم.
ومع قداسة البيت الحرام لدى العرب التي توارثوها من عهد نبي الله إبراهيم الخليل، وابنه نبي الله إسماعيل “عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَام”، وارتباطهم بشعائر الحج، إلا أنهم -نتيجةً للفرقة والاختلاف والشتات الذي كانوا فيه، والمفاهيم الظلامية التي سيطرت على تفكيرهم ورؤيتهم للأمور، والخلل الذي كانوا يعانون منه في كل واقعهم، وفقدانهم الأمل بالله تعالى- لم يتحركوا بجديةٍ في مواجهة أصحاب الفيل، وغلبت عليهم الهزيمة واليأس، وهربوا من المواجهة، وقالوا في الأخير: [للبيت ربٌ يحميه]، فحمى الله بيته الحرام، وأنفذ مشيئته بقدوم المولود المبارك محمدٍ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية21].
أما أصحاب الفيل فأهلكهم الله، وأما كيدهم ومكرهم فضل وبطل وانتهى، ولم يتحقق لهم ما أرادوا، فمشيئة الله تعالى ورحمته بعباده أتت بالخلاص وبالفرج، بعد أن بلغ الضلال ذروته، واستحكمت سيطرة الطاغوت والاستكبار في كل أقطار الدنيا، وملأت بظلامها قلوب البشرية؛ فأعمت بصائرهم، وبظلمها واقعهم؛ فأشقت حياتهم، فكان أن غيَّرت الرسالة الإلهية في حركة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” بها بعد مبعثه الشريف هادياً ومعلماً ومربياً، مجاهداً وصابراً ومضحياً، غيَّرت الواقع بكله على الجزيرة العربية بكلها، لتمتد آثار ذلك التغيير -وبمستوياتٍ متفاوتة- إلى أرجاء الدنيا بكلها.
والأمة التي كانت متفرقةً، وجاهلةً، وظلاميةً، وأخافها -في يومٍ من الأيام- فيلٌ واحد في مقدمة جيشٍ، تغير واقعها بعد إسلامها، بعد أن تنورت بالنور، واستبصرت بالهدى، وزكت بالقرآن وبتربية الرسول “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، فواجهت جيوش الامبراطوريات والدول الكبرى المستكبرة، ولم ترهب جيوشها التي كانت تأتي بأعدادٍ كثيرة من الفيلة، كانوا يتوقعون أن يخاف المسلمون -مجدداً- إذا شاهدوا الفيلة، كما خافوا قبل إسلامهم من فيلٍ واحد، فأتوا بالكثير من الفيلة. لم يخف المسلمون فيما بعد، بل قويت أمتهم بقوة الحق، وانتصرت بنصر الله، حينما تحولت إلى أمةٍ حملت أعظم مشروع وأقدس قضية، وحينما تحولت إلى أمل لكل المستضعفين في الدنيا، غير مؤطرةٍ بعنوانٍ جغرافي ولا بلونٍ ولا بعرقٍ ولا بقومية، بل بخطاب القرآن للناس.. كل الناس.
لقد استطاع الرسول “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بحركته بالقرآن، وبما منحه الله تعالى من مؤهلات عالية وكمالٍ عظيم، وبتأييد الله تعالى، أن يصنع تغييراً مفصلياً في التاريخ، وأن يؤسس لعهدٍ جديد، ختم به رسالات الله تعالى إلى الأنبياء، ومن معجزات الرسالة الإلهية أنَّ رافعتها وحملتها وأتباعها وأنصارها والمنتصرين بها هم المستضعفون، وليس المستكبرون.
ولم يكن انتصار الرسالة الإلهية مرهوناً بقوى الاستكبار، بل كانوا هم -على الدوام- أعداءها، والمختلفين معها؛ لأنها تناقض أطماعهم وطغيانهم واستعبادهم للبشرية، بل كان المستضعفون هم الذين يؤمنون بها، ويعتزون بها، ويقوون بها، ويتغير واقعهم بها، بعد أن يغيروا ما بأنفسهم.
الرسالة الإلهية هي المشروع الوحيد القادر على إحداث التغيير الحقيقي للواقع البشري، وتقديم الحلول الواقعية للبشر؛ لأنها مشروعٌ شامل، يتجه إلى الإنسان نفسه، فيغير ما بنفسه من ظلمةٍ ودنس، وإذا صلح الإنسان صلحت الحياة بكلها، وصلح واقعه؛ لأنها مشروعٌ يصنع الوعي، ويزكي النفس، ويأخذ بيد الإنسان في الحياة في الطريق السوي، ويهدي للتي هي أقوم، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: من الآية1]، ولأنه مشروع الله لكل عباده، ليس من قومٍ حسبوا حساب أنفسهم وحساب مصالحهم على حساب قومٍ آخرين، ولا لعرقٍ على عرق، ولا للونٍ على لون، ولا لقوميةٍ على قومية، بل هو الكلمة السواء التي يمكن أن يلتقي عليها جميع البشر، وهو المشروع العالمي الحقيقي الصالح، القائم على العدل، والعدل دعامةٌ أساسيةٌ في بنيانه، قال الله تعالى : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: من الآية29]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: من الآية135]، ثم هو حجة الله تعالى على عباده؛ لأنه الذي خلقهم، هو ربهم وملكهم وإلههم الحق، وإليه مصيرهم وحسابهم وجزاؤهم، وقد قدم نداءه إليهم منذ بداية وجودهم على هذه الأرض، فقال تعالى مخبراً بندائه واحتجاجه: {يَا بَنِي آدَمَ} خطاب الله إلى البشر في كل الأجيال التي قد خلت، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 35-36].
ومن هذا المنطلق فلا خلاص اليوم للبشرية بأي بديلٍ عن رسالة الله تعالى، ولا حل يغير الواقع بكله إلا الانفتاح على الرسالة الإلهية، على رسالة الله ونوره، ولا صلاح لآخر الأمة، إلا بما صلح به أولها.
وقد ثبت أن قوى الاستكبار اليوم -وعلى رأسها أمريكا و”إسرائيل”- تفاقم من مشاكل البشرية، وتفسد في الأرض، وتعتدي على الشعوب، وتنهب الخيرات، وتصنع الحروب والأزمات، ولا تقدم للبشرية إلا المزيد من المآسي والنكبات، وزاد من سوء الأمر في عالمنا الإسلامي -خصوصاً في المنطقة العربية- التبعية العمياء من بعض الدول التي تقدم نفسها على أنها تمثل الإسلام، كما هو حال النظام السعودي المنافق، الذي جعل من نفسه أداة شرٍّ لتنفيذ مؤامرات الأعداء، وهدم كيان الأمة من الداخل، وهو -بلا شك- امتدادٌ ظلاميٌ ظالمٌ لقوى الاستكبار، ويمثل حالة الانحراف والتحريف داخل الأمة، التي ائتلفت مع شبيهاتها من حالة الانحراف والتحريف في شريعة موسى وشريعة عيسى “عَلَيْهِمَا السَّلَام”.
إن القرآن الكريم يجعل من التبعية لأعداء الأمة من المستكبرين خروجاً عن الحق، وزيغاً عن الهدى، وخيانةً للأمة، وهو يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: من الآية51]، وإن أكبر معاناةٍ تعانيها الأمة اليوم هي هذه التبعية التي مثَّلت حالة اختراقٍ كبيرٍ ومؤذٍ ومخربٍ في داخل الأمة، ويجب أن تحذر منها الأمة، وأن تتحصن منها بالوعي، وأن تواجه مؤامراتها ومكائدها بتحمل المسؤولية، ومآل أولئك الخونة المنحرفين إلى الخسران، مصداقاً للوعد الإلهي في سورة المائدة.
والأمة في مواجهة التحديات (الداخلية مع قوى النفاق، والخارجية من قوى الطاغوت والاستكبار) معنيةٌ بالاعتصام بالله تعالى، والارتباط الوثيق برسالته، فبها تتقوى، وبتعاليمها تفلح، وبالتمسك بها تنتصر؛ لأنها رسالةٌ في مضمونها من التعاليم والتوجيهات والحكمة عناصر القوة، بل إن عناصر القوة ذاتيةٌ فيها، وبالتمسك بها تحظى الأمة بنصر الله وعونه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
وقد كان لشعبنا اليمني الشرف الكبير -بدءاً بالأنصار- في إيمانه وجهاده، وتفاعله مع رسالة الله تعالى؛ حتى نال وسام الشرف الكبير فيما روي عن رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بشأنه: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، فشعبنا اليمني العظيم بوعيه لم يتأثر بأبواق التضليل، وما عدا الخونة والمنافقين والمرتزقة، فإن جماهير الشعب اليمني -بعظيم الصبر والصمود والتضحية والعطاء- قدمت إلى العالم أجمل صورة عن عظمة قيم الإسلام وأثر الإيمان، فأسر الشهداء، والجرحى، وأبطال الميدان وجماهير الشعب من كل أطيافه، أثبتوا للجميع أن القوة هي قوة المبادئ، وقوة القيم والأخلاق، وقوة الاعتماد على الله والتوكل عليه.
ولذلك فإن الشعب اليمني اليوم، وبميثاق الإسلام الذي قدمه في صدر الإسلام لرسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” إيماناً ونُصرةً وإيثاراً، يؤكد اليوم بالقول وبالفعل الاستمرار على النهج، والمواصلة للسير في الطريق، والسعي المستمر للاستبصار والارتقاء الإيماني.
وفي مناسبة المولد النبوي الشريف يؤكد الشعب اليمني -من واقع انتمائه الإسلامي وهويته الإيمانية وإنسانيته- أنه متمسكٌ بقضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية المركزية المتمثلة بمظلومية الشعب الفلسطيني، واحتلال الأقصى والمقدسات وأرض فلسطين، وما يمثله العدو الإسرائيلي من خطرٍ على الأمة بكلها، ولذلك فإن الشعب اليمني يؤكد على الدوام وقوفه الصادق إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته، وإلى جانب المقاومة اللبنانية.