تقرير|

في يومٍ مهيبٍ يسطع فيه النور من قلوب الملايين قبل أن يسطع من سماء الأرض، وقف الشعب اليمني شامخًا، محتفيًا بذكرى المولد النبوي الشريف، ذكرى ولادة سيد البشرية، رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. يومٌ تحوّلت فيه صنعاء، ومعها كل مدن اليمن وقراه، إلى لوحةٍ خضراءَ تعانق السماء، يرفرف فيها الولاء، وتعلو منها الصلوات على النبي الأعظم.

منذ ساعات الصباح الأولى للمولد النبوي، كان كل شيء في اليمن يتوشح الأخضر؛ البيوت، الأسواق، المركبات، الشوارع، وحتى وجوه الأطفال التي أشرقت بالبهجة. المساجد ارتفعت مآذنها بالصلوات، تنادي القلوب قبل الآذان، وتدعو الأرواح إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله. المحلات التجارية، الباعة المتجولون، السوبرماركات، جميعهم وحّدوا أصواتهم بالتهليل والصلاة، وكأن البلاد تحولت إلى محرابٍ واسعٍ يتسابق فيه الجميع لنيل شرف الذكرى.

الطرقات جميعها أدّت إلى الساحة المركزية في العاصمة صنعاء، حيث احتشدت الملايين، حضورًا قلّ أن يشهد التاريخ مثله. الحشود كانت بحرًا لا ينتهي، امتدت على مدّ البصر، كأن الأرض ضاقت بأهلها من شدة التدافع شوقًا إلى الحبيب المصطفى. رايات خضراء ترفرف، ووجوه يملؤها النور، وألسن تهتف بالولاء، وأكفّ ترتفع بالدعاء، وقلوب معلّقة برسول الله الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور.

 

لم يكن هذا الحضور المليوني مجرّد فعالية احتفالية، بل كان رسالةً للعالم أجمع: أن هذا الشعب الذي يرزح تحت الحصار ويعاني من العدوان، لا تُطفئ نيرانه جذوة الإيمان، ولا تكسر محنته حبّه لرسول الله. إنه حضور أحفاد الأنصار، أبناء يمن الإيمان والحكمة، الذين عاهدوا رسول الله في التاريخ أن يكونوا أنصاره وأوفياءه، وها هم اليوم يجددون العهد في الساحات، ويكتبون بجموعهم الهائلة صفحة جديدة من الوفاء.

لقد كان المشهد أبلغ من كل بيان: تنظيمٌ رفيع المستوى، خدمات صحية حاضرة، تعاون شعبي قلّ نظيره، تبادل للتهاني بالذكرى العطرة، وتزيين للسيارات والطرقات باللون الأخضر، لون الحياة والإيمان. وفي المساء، دوّت أصوات الألعاب النارية في سماء المدن والقرى، كأنها زغاريد الأرض، احتفاءً بمولد الرحمة المهداة، محمد صلى الله عليه وآله.

اليمنيون –رغم ما يكابدونه من حصار وعدوان– أكدوا للعالم أن دوافعهم الإيمانية لا تُقهر. هذا الحضور المليوني الذي تحدّى الصعاب، لم يكن سوى برهانٍ حيّ على أن الهوية الإيمانية لهذا الشعب قد صيغت بدماء الشهداء، وأن محبته للرسول الأعظم أعمق من أن تنال منها حملات التضليل أو مؤامرات الطغاة. إنه إعلان بأن اليمن يستمد صموده من نور محمد، ويستقي عزيمته من رسالته، ويهتدي بخطاه في معركة الحرية والكرامة.

لكن ما يميز هذا اليوم في اليمن أنه ليس احتفالًا عاطفيًا عابرًا، بل موسم تربوي وثقافي وروحي. فالشعب جعل من ذكرى المولد مدرسةً مفتوحةً للأجيال، ينهل منها الدروس، ويستمد منها العزم، ويستحضر من سيرة الحبيب المصطفى معاني التضحية، الصبر، الثبات، والحرية. إنه يومٌ يختلط فيه الفرح بالمسؤولية، والابتهاج بالوعي، والاحتفال بالعزم على المضي قدمًا في درب محمدٍ والقرآن.

لقد قال الشعب اليمني كلمته في هذا اليوم العظيم: “إرادتنا لا تنكسر، ثباتنا لا يتراجع، صمودنا لا يلين”، لأنه يستلهم من رسول الله قوة الموقف، ومن القرآن الكريم صفاء النهج، ومن الإيمان بالله مصدر العزة والانتصار.

وكما في كل عام، تبوأ اليمنيون الصدارة بين شعوب الأمة في احتفائهم بالمولد النبوي، ليس بالعدد فحسب، بل بالوعي والجوهر، إذ حوّلوا المناسبة إلى موسمٍ للتربية والإصلاح، وميدانٍ لتعزيز الروابط الروحية والوجدانية برسول الله صلوات الله عليه وآله، ورسالة تحدٍّ في وجه المستكبرين، الذين يسعون لفصل الأمة عن نبيها وقدوتها.

اليوم، يبرهن اليمنيون أنهم أبناء مدرسة الأنصار، الذين استقبلوا الرسول في هجرته بالحب والفرح، وقالوا للعالم بلسان الحال والمقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. وما أعظم فضل الله ورحمته إذ بعث فينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.

إنه مشهد لا يشبهه مشهد: شعبٌ محاصرٌ محارب، لكنه في ذكرى مولد رسوله يتسامى فوق الجراح، فينثر الحب والولاء في كل شارعٍ وزقاق، ويحوّل الألم إلى قوة، والمعاناة إلى ملحمة، والاحتفال إلى رسالة حضارية للعالم.

وبينما تتعاظم التحديات، ويشتد الخطب، يبقى هذا اليوم في اليمن عنوانًا للهوية الإيمانية، ودرسًا بليغًا للأمة التي أنهكتها الانقسامات: أن سبيل الخلاص يبدأ من العودة إلى محمد صلوات الله عليه وآله، إلى نهجه، إلى رسالته، إلى القيم التي جسّدها قولًا وفعلًا، رحمةً وعدلًا وكرامةً.

إن الحشود المليونية، التي تحدّت الحصار، وتجاوزت صعوبات النقل، وكسرت شوكة التضليل الإعلامي، لم تكن مجرد أرقامٍ هائلة، بل كانت شهادةً متجددة بأن اليمن قد عمّد هويته الإيمانية بدماء شهدائه، وبأن محبته لرسول الله أعمق من أن تنال منها المؤامرات. لقد قال اليمن للعالم أجمع: لسنا شعبًا يلهيه الفرح عن مسؤوليته، بل نحن أمةٌ تعتز بحريتها كجزءٍ من إيمانها، وتأبى الخضوع للطغاة؛ لأن قدوتها محمد، المعلّم الأكبر والقدوة الأكمل.

إنها لوحة فنية تتجدد كل عام: اليمن – يمن الإيمان والحكمة – يخرج من قلب الحصار ليضيء للأمة شمعة، ويقدّم درسًا في معنى الوفاء لمحمد، في معنى أن يبقى حبّه حيًا في النفوس، وأن يتحول إلى سلوكٍ ووعيٍ ومقاومة.

فسلامٌ على اليمن يوم احتفى، وسلامٌ على صنعاء يوم تزيّنت، وسلامٌ على شعبٍ أبى إلا أن يكون في مقدّمة الأمة في حبّه لنبيه، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.