من الإيمان إلى الفعل: كيف شكّلت الهوية الإيمانية الموقف اليمني المعاصر
الثلاثاء, 23 ديسمبر 2025
إن البطولات التي يسطرها الشعب اليمني اليوم في مواجهة الاستكبار الأمريكي الصهيوني هي نتاج طبيعي لهوية امتلكها شعبنا وتحرك على أساسها. هذه الهوية هي هوية إيمانية جامعة لخّصها الرسول محمد صلوات الله عليه وآله وسلم حين قال: “الإيمان يمان والحكمة يمانية”، ولأن أول مبادئ هذا الإيمان هو التحرر من العبودية للطواغيت، فقد انطلق الشعب اليمني اليوم في الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني، فواجه أقوى الجيوش على مستوى العالم، متسلحا بسلاح الإيمان، معتمدا على الله سبحانه وتعالى ومعونته وهدايته.
وكما انتصر الأجداد من الأوس والخزرج للرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله فإن شعبنا اليوم يسير على نفس المنوال، حاملا على عاتقه الانتصار للمستضعفين وحماية كيان الأمة، في ظل انحراف عربي إسلامي عن الهوية حتى وصلوا إلى أحط مستوى وبالشكل الذي استطاع اليهود -الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة- أن يقهروا أكثر من ملياري مسلم فيما وقف الشعب اليمني -حينما امتلك هوية إسلامية- ليواجه أقوى الجيوش ويتغلب عليها ويصمد أمام كل التحديات بإمكانات متواضعة.
حين انتفض اليمن انتصارًا لغزة، لم يكن ذلك خروجًا عن المألوف، بقدر ما هو عودة إلى الأصل، وحين اهتز الشارع اليمني غضبًا لإحراق المصحف الشريف والإساءة للقرآن الكريم، ليس فعلًا طارئًا، وإنما تعبير صادق عن هويةٍ تعتبر القرآن روحها، والإيمان بوصلتها، والكرامة خطّها الأحمر.
في غزة، رأى اليمنيون صورتهم، ورأوا جوهر إيمانهم يُستهدف، فغزة -في الوعي اليمني- هي قضية إيمانية عنوانها الحق في مواجهة الباطل، والمستضعف في مواجهة الطاغوت، ولهذا، جاءت المواقف اليمنية -شعبًا وقيادةً- حازمةً وواضحةً، لأن الهوية الإيمانية لا تعرف الحياد حين يُذبح الحق على مرأى العالم، فالإيمان -في جوهره- موقف، والانتماء الإيماني يفرض الاصطفاف مع المظلوم، لا الاكتفاء بالتعاطف البارد أو البيانات الخجولة.
لقد تحرك اليمن من منطلق أن نصرة فلسطين جزء من الإيمان، وأن الصمت خيانة للهوية، وأن التخلي عن غزة يعني التخلي عن جوهر “الإيمان يمان”، وهذه معادلة لا يقبلها اليمني الذي تشكّل وعيه على أن الإيمان فعل، لا ادّعاء.
وحين أُحرِق القرآن الكريم، وامتدت أيادي الكراهية لتدنيس أقدس مقدسات الأمة، لم يرَ اليمنيون في ذلك حادثةً معزولة، وإنما استهدافا مباشرا لهويتهم، فالقرآن الكريم في الوعي اليمني دستور الحياة، ومنبع القيم، وأساس الهوية، ولهذا، كان الغضب اليمني غضبًا واعيًا، عميقًا، يتجاوز ردود الفعل الشكلية؛ لأن المساس بالقرآن الكريم هو مساس بالإيمان، والمسّ بالإيمان هو مسّ بالكرامة، والكرامة في الهوية اليمنية ليست قابلة للمساومة.
تحرك الشعب اليمني غضبا للقرآن الكريم بداية بالقائد السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي الذي أصدر بيانا اعتبر الجريمة النكراء -التي أقدم عليها المرشح الأمريكي بإحراق القرآن الكريم- خطوةً في إطار الحرب الصهيونية على هوية ومقدسات الأمة التي تسعى لمحونا والسيطرة على الأمة روحا وفكرا وثروات وأرضا. وفي بيانه دعا السيد القائد إلى عضب شعبي واسع، لقي استجابة منقطعة النظير تعبر عن تجذر الشعور تجاه المقدسات في الشعب اليمني، فقد خرجت في العاصمة صنعاء ومختلف المحافظات ما يزيد عن (1500) مسيرة جماهيرية حاشدة، كما نظم الطلاب في المدارس والجامعات والمعاهد وقفات حاشدة، إضافة إلى الخروج الجماهيري للعاملين في المؤسسات الرسمية. وهذا الغضب تجسيد للإيمان الحي الذي يرفض السكوت، ويأبى تحويل المقدسات إلى مادة للسخرية باسم حرية زائفة، صُنعت لحماية الكراهية لا لحماية الإنسان.
إن ما يميّز الموقف اليمني اليوم أنه موقف متسق مع ذاته؛ فاليمن الذي اختار الإسلام طوعًا، واحتضن الإيمان بوعي، هو ذاته اليمن الذي يرفض اليوم الخضوع للطغيان، سواء تجلّى في عدوان على غزة، أو في تدنيس للقرآن، أو في مشاريع استعباد وهيمنة، فالهوية الإيمانية -حين تكون حيّة- لا تبقى حبيسة الشعارات، وإنما تتحوّل إلى موقف، وإلى غضبٍ في وجه الباطل، وإلى نصرةٍ للمظلوم، وإلى ثباتٍ لا تزعزعه الضغوط ولا الحصار.
هكذا تتصل الحلقات من جمعة رجب التي دخل فيها اليمنيون الإسلام دون سيف، إلى ساحات الغضب التي خرجوا فيها دفاعًا عن القرآن، إلى مواقف النصرة التي أعلنوا فيها وقوفهم مع غزة، سلسلة واحدة، وجذر واحد، وهوية واحدة (هوية الإيمان والحكمة والكرامة). وبهذا المعنى، فإن المواقف اليمنية المعاصرة تأكيد جديد على أن الإيمان إذا سكن القلوب تحوّل إلى فعل، وإذا تجذّر في الهوية، صار موقفًا لا يُشترى ولا يُكسر.
جمعــة رجــب أو «الرجبيــة» مناســبة يحتفــل بهــا ويقــف عندهــا الشــعب اليمنــي، الشــعب الــذي وصفــه رســول الله صلــوات اللــه عليه وآله بقوله “الإيمان ُ يمــانٍ، والحكمــة ُ يمانيــةٌ”، في شــهادة يفتخر بها الشعب اليمني لأنها مــن ســيد المرســلين، وفــي دلالة واضحة علــى مســتوى الإيمان والحكمــة التــي اختــص بهــا اللــه ســبحانه وتعالــى الشــعب اليمنــي دون غيــره مــن شــعوب العالــم الإسلامي، إذ يحتفل اليمنيون في الجمعة الأولى من شهر رجب من كل عام بهذه المناسبة لما لها من أهمية كبرى، لأنها من الصفحات البيضاء الناصعة من تاريخنا، حيث التحق في الجمعة الأولى من رجب عدد كبير من أبناء اليمن بالإسلام طوعا دون ضربة سيف ولا طعنة رمح، وفيما بعد أقبل أهل اليمن إلى الإسلام من خلال الوفود بشكل كبير يبايعون رسول الله صلوات الله عليه وآله.
جمعة رجب مناســبةٌ تاريخيــة وذكــرى عظيمــة لليمنييــن، فهــي تعتبــر محطــة ً أساســية ً مــن المحطــات التاريخيــة لهــذا الشــعب العظيــم فــي انتمائــه للإسلام، فرســول اللــه صلــوات اللــه عليــه وعلــى آلــه كان قــد أرســل الإمام عليــا ً عليــه السـلام برســالة إلــى اليمــن؛ ليدعــو أهــل اليمــن إلــى الإسلام، فــكانت هنــاك اســتجابة ســريعة، ودخــول طوعــي بــكل رغبــة وقناعــة، وفي ذلك اليوم التحق عدد كبير من اليمنيين بالإسلام وأعلنوا إسلامهم، وكتب الإمام علي “عليه السلام” إلى رسول الله صلوات الله عليه وآله رسالة أخبره فيها عن ذلك ببعض التفصيل، فسجد رسول الله صلوات الله عليه وآله شكرا وسُرَّ سرورا عظيما.
لقد تميز اليمنيون عبر التاريخ بالانتصار للإسلام والمقدسات، ففي بداية البعثة النبوية، وحين بدأ رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله مرحلــة الدعــوة للديــن الإسلامي الحنيــف فــي مكــة علــى المســتوى الفــردي، لــم يكــن هنــاك إلا القلــة القليلــة ممــن آمنــوا بــه فــي مكــة، وبالطبــع فقــد كان مــن أبرزهــم مــن هــم مــن أصــول يمانيــة، مثــل: عمــار بــن ياســر ووالــده وأمــه، وكذلك المقداد المعروف بالمقداد بن الأسود الكندي. وعمار والمقداد من عظمــاء وأخيــار صحابــة رســول اللــه “صلوات اللــه عليه وعلى آله” الذين آمنوا وصبروا وجاهدوا وجمعوا بين الجهاد والهجرة والإيمان، وكانوا على مستوى عظيم من الوعي والبصيرة والمنزلة الرفيعة في إيمانهم وسابقتهم.
أمــا علــى المســتوى الجماعــي فقــد كان إيمــان قبيلتــي الأوس والخــزرج (الأنصار)، وهؤلاء هــم مــن كان لهــم شــرف الســبق بالإيمان والنصــرة الذيــن تشــرَّفوا بهــذا الشــرف الكبيــر: الإيواء لرســول اللــه، ونصرتــه، والدخــول فــي الإسلام، والأوس والخــزرج من أصول يمانية.
ثــم تبــع ذلــك أيضــا إيمــان البعــض علــى مســتوى فــردي، وعلــى مســتوى جماعــات وقبائــل، لكــن التحــول الواســع والكبيــر كان فــي جمعــة رجــب، ففــي آخــر الســنة الثامنــة وأول التاســعة للهجــرة بَعَــث رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وآلــه وســلم إلــى اليمــن الإمام علــيا بــن أبــي طالــب “عليــه السـلام” -وهو أول رُسله لليمن- إلى صنعاء وقبائل همدان، فأسلمت على يده صنعاء ومخلاف همدان كله فــي أول جمعــة مــن رجــب، فكتــب الإمام علي إلــى رسول الله بذلك فلما قرأ رسول الله الكتاب خر ساجدا لله ثم رفع رأسه وقال: “السلام على همدان، السلام على همدان، السلام على همدان”، وفــي روايــة أنــه قال “نعــم الحــي همــدان، مــا أســرعها إلــى النصــر، وأصبرها على الجهد، وفيهم أبدال، وفيهم أوتاد”.
وفي الجمعة الأولى من شهر رجب، كان هناك الإسلام الواسع لأهل اليمن، والذي أسس لهذه المناسبة في الذاكرة وفي الوجدان التاريخي لأهل اليمن، فكانت مناسبةً عزيزةً يحتفي بها أهل اليمن كلما تأتي هذه المناسبة في كل عام، الجمعة الأولى من شهر رجب وما عُرفَ في الذاكرة الشعبية بالرجبية.
ما من أمة في هذه الأرض إلا ولها هوية، إما هوية صحيحة، أو هوية خاطئة، وإما هوية مختلطة فيها شيءٌ من الأشياء الصحيحة، ومزيج من الأشياء الخاطئة، حتى -أحياناً- مزيج من الخرافة، فبعض الأمم والشعوب والكيانات في قسمٍ كبيرٍ من عقائدها ومفاهيمها وعادتها وأعرافها جانب كبير يعتمد على الخرافة، ولكن تبقى متشبثة، مجتمعة، الذي يجمع ذلك الشعب، أو يجمع تلك الأمة، أو يجمع سكان ذلك البلد هي تلك العادات، والتقاليد، والأعراف، والعقائد، وذلك النمط من الحياة الذي يستند إليها ويعتمد عليها.
وبالتالي فإن الهوية هي مجمل السمات والخصائص (الثقافية، الاجتماعية، الشخصية) التي تُعرّف الفرد أو المجموعة وتميزها عن غيرها، وهي إحساس بالذات والانتماء يشمل القيم والمعتقدات والتاريخ.
ومن هنا فإن هويتنا كشعبٍ يمني هي الهوية الإيمانية، وأوضح ما يمكن التعبير عنها هو ما تحدث عنه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وروي عنه حينما قال: “الإيمان يمان”، وهذه أعظم وأقدس وأشرف هوية، فلا يوجد على الإطلاق هوية أعظم من هذه الهوية.
وهويتنا الإيمانية (الإيمان يمان)، والإيمان ما هو؟ الإيمان مبادئ، الإيمان قيم، الإيمان أخلاق، الإيمان مفاهيم تنزل إلى واقع الحياة، تبنى عليها الحياة، الإيمان مواقف، فالإيمان منظومة متكاملة من: المبادئ، والقيم، والأخلاق، والسلوكيات، والأعمال، والمواقف، ومسار حياة، ومشروع حياة.
وبالتالي فإن تفرد الشعب اليمني عن غيره من شعوب الأمة في مواقفه البطولية هو تجسيد عملي للهوية الإيمانية وثمرة الارتباط بالثقافة القرآنية وأعلام الهدى، لذلك استحق الشعب اليمني أن يمُنَّ الله عليه بالانتصار في كل مراحل الصراع
