بين يدي رسول الله، وفي مقام مولده الشريف، تبادل شعبٌ عظيم وقائدٌ حكيم أصدق مشاعر المحبة والولاء والوفاء. لم يكن المشهد مصطنعاً ولا مُرتَّباً ببرامج سياسية جامدة، بل كان عفوياً صافياً كنبعٍ يتدفق من قلب الإيمان. هناك التقت الروح الشعبية الجياشة بالقيادة القرآنية الملهمة، في لوحة تعكس صدق العلاقة بين القائد وأمته، بين الحكمة والوفاء، بين الرسول والأنصار.
هي لحظات لكنها تساوي أعماراً، دقائق ستحتفظ بها القلوب، وتؤرَّخ في الوعي الجمعي قبل أن تُخزن في مقاطع الفيديو. لقد عزف اليمنيون مقطوعةً محمديةً خالدة، لم تكن مجرد أناشيد ولا هتافات، بل سيمفونية حب وولاء، عزفتها الجموع بأجمل الألحان وأصدق الأفعال وأنبل المواقف، لتسجّل أضخم إحياء للمولد النبوي الشريف على وجه الأرض.

نفير المواكب وهيبة المشهد

تدفقت مواكبهم كالأمواج إلى ساحات الاحتفاء، مشهدية لا يضاهي جلالها إلا مشهدية مغادرتهم منها. في حضورهم كانوا كالجبال الراسخة، وفي خروجهم كالأنهار والبحار الممتدة. لم تكن المسيرة مجرّد زحام، بل كانت نفيراً مقدساً، فيه تهفو القلوب كما تهفو الأرواح إلى بيت الله الحرام، وفيه تتسابق الأقدام على خطى العظماء الذين استجابوا للرسالة بصدقٍ وإيمان.
لم يكن الزمن في تلك الساحات عادياً. كانت الدقائق تمرّ كالثواني، لكنها تترك أثراً كالسنين. كل مشهدية كانت تُبهر الأبصار وتُدهش العقول: ملايين يحيون المولد النبوي في أعظم احتفائية عرفها التاريخ البشري. إن الدهشة في عيون الداخلين والخارجين لم تكن من كثرة الأعداد فحسب، بل من عظمة الروح التي جمعتهم، ومن نور الرسالة الذي غمر المكان.
أبهرت المشاهد اليمنية كل من تابعها في الداخل والخارج. دقائق قليلة كانت كافية لتقلب الموازين الإعلامية والسياسية. كانت صورة الملايين تتحدث بصوت أبلغ من أي بيان، وتعلن أن هذه الأمة لن تنكسر، وأنها قادرة على صناعة الدهشة من قلب المعاناة. لم تكن الدهشة فقط في حجم الحشود، بل في سلوكها، في انضباطها، في صفائها، وفي تماهيها مع الرسالة المحمدية. كأن محمداً نفسه كان بينهم، يبتسم وهو يرى أمته تجدد العهد معه بعد أكثر من أربعة عشر قرناً.

حين تصغي المسامع وتعي القلوب

لحظة خفت فيها الهدير وتلاشت أصوات الحشود، لم يكن صمتاً عادياً، بل كان إصغاءً كإصغاء الأوس والخزرج يوم البيعة، وكان وعياً كوعي أهل الحكمة والإيمان حين يتلقون هدى السماء. هذا الإنصات لم يكن فراغاً صوتياً، بل امتلاءً وجدانياً، حيث كانت الأرواح تصغي لحفيد رسول الله كأنها تجدد العهد مباشرة بين يديه.
ومن كل حدب وصوب جاءوا، كأنهم قوافل حج متتابعة، يحملون الشوق ويطلبون الزاد. زادهم لم يكن طعاماً ولا شراباً، بل كان طاقة إيمانية يقتبسونها من ذكرى خاتم البرية وكلمات حفيده، ليملؤوا بها حياتهم عاماً كاملاً. لقد جاؤوا ليشحنوا أرواحهم بالنور، ثم لينتشروا بعدها في القرى والمدن، ينشرون العدل والحق والنور، ويغرسون البركة في كل زاوية من الأرض.

أجواء يثربية

من يشاهد اليمنيين في استقبالهم لمولد النبي، لا بد أن تتداعى إلى مخيلته أجواء يثرب قبل أربعة عشر قرناً يوم هاجر إليها رسول الله. لقد تكررت الحفاوة ذاتها، والوفاء ذاته، والولاء ذاته، وكأن الأوس والخزرج قد عادوا من جديد، لكن في حُلل يمنية، ليعانقوا أنصار هذا الزمان، ويثبتوا أن دم الأنصار لا يزال حياً في عروق أحفادهم.
لم يترك العشق المحمدي في قلوب اليمنيين موطئ قدم فارغا في الساحات. ازدحمت صنعاء حتى فاضت، وكل عاشق بادر بالحضور قبل الآخر، ليكون شاهداً على لحظة الولاء، وليملأ المكان نوراً وذكراً وصلاةً على النبي وآله. لقد كان الحشد في ذاته تجسيداً لمعنى السبق في الإيمان، كما سبق الأنصار يوماً إلى نصرة رسول الله.

 

غزة وصنعاء.. وحدة الشغف

لم تكن غزة بعيدة عن المشهد، فقلوب اليمنيين كانت معها في كل هتاف، وفي كل دعاء، وفي كل دمعة. كان الشغف المحمدي في صنعاء يتشابك مع صمود غزة، وكان العهد واحداً: أن تبقى راية محمد عالية فوق كل مؤامرات أمريكا و”إسرائيل”. في ميدان السبعين، شعرت أن صواريخ غزة وصواريخ صنعاء تصعد من قلب واحد، وأن الدم الذي يسيل هناك يجد صداه هنا. إنها وحدة الشغف الإيماني، ووحدة الموقف الجهادي.
في ميدان السبعين -حيث اجتمع الملايين- تداخلت أصوات غزة وصنعاء، لتعلن أن شغف الأنصار لا يتجزأ، وأن العشق المحمدي في اليمن هو ذاته الذي يتدفق في قلوب المقاومين بفلسطين. كانت لحظة تجلّت فيها وحدة المستضعفين، ومشتركات الإيمان والجهاد، حيث يتحول الاحتفاء بمولد النبي إلى موقف عالمي مناصر للحق، ورافض للطغيان.
وعلى هامش هذا المشهد المهيب، كان آلاف الجنود يجسدون صورة أخرى من العطاء. لم يكونوا مجرد حماة للفعاليات، بل كانوا خداماً لضيوف رسول الله، يؤمّنون أرواحهم، ويضمنون انسيابية مرورهم، ويشيعون في الأجواء سكينةً وطمأنينةً تعكس أن الانضباط والوعي ركيزتان في مسيرة هذا الشعب. لقد بدوا كأنهم جنود بدر وأحد، أعادوا صياغة المشهد الإيماني في زمننا.
حين غادرت تلك الملايين ميدان السبعين، لم يكن المشهد مجرد انصراف جماهيري، بل كان إعلان هيبة. عبارة واحدة تختصر المعنى: (ودّفت أمريكا ولتتجهز إسرائيل للرحيل). لقد أدرك العالم أن هذه الحشود ليست موسمية، وأنها تعبّر عن هويةٍ راسخة وشعبٍ لا يُقهر، وأن الهيمنة الغربية على المنطقة تتصدع أمام هذه الإرادة الجماهيرية الصلبة.
وبعد أن احتشدوا بالملايين بين يدي مولده الشريف، خرجوا لينتشروا في الأرض، عملاً وبناءً ورباطاً وجهاداً. لم تكن الفعالية خاتمةً، بل بداية دورة جديدة من العمل الإيماني الممتد. خرجوا بزاد محمدي، وتكليف نبوي، وولاء ممتد، ليواصلوا معركة الحق ضد الباطل، وليثبتوا أنهم الأمة التي لن تملّ ولن تكلّ حتى يورثها الله الأرض ومن عليها.