الكيان المأزوم: حين تصبح واشنطن خط الرجعة الوحيد لـ”إسرائيل”
تقرير | علي الدرواني
يعد كيان العدو الإسرائيلي كيانًا عدائيًا بطبيعته، تأسس على منطق القوة العسكرية، ويعيش في ظل الحروب، ويستمد استمراره منها. نادرًا ما تمر سنة دون أن ينخرط في عدوان أو مواجهة، فهو كيان لا يستطيع البقاء دون حروب تشكل ركيزة وجوده ووسيلة فرضه في المنطقة. ومن هذا المنطلق يسعى باستمرار إلى الحفاظ على تفوقه العسكري والتكنولوجي، انطلاقًا من إدراكه العميق أن أي ضعف، مهما كان بسيطًا، قد يتحول إلى تهديد وجودي حقيقي.
ورغم الحفاظ على هذا التفوق العسكري والاستخباراتي والتكنولوجي، إلا أن نمط دخول الكيان المتكرر في الحروب العسكرية، خصوصًا مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أو حزب الله في جنوب لبنان، يكشف عن ثغرة استراتيجية عميقة، هي التي سمعناها كثيرا في طوفان الأقصى، وبالتحديد وبشكل أكثر في العدوان الإسرائيلي على إيران، وهي غياب واضح لما يعرف بـ”استراتيجية الخروج”.
تبدأ “إسرائيل” عملياتها العسكرية غالبًا بقوة ضاربة، مستندة إلى عنصر المفاجأة والدقة الهجومية، لكنها تفتقر إلى خطة متكاملة لما بعد العمليات وقد سمعنا كثيرا من بداية طوفان الأقصى، أسئلة متكررة، عن اليوم التالي، وهذا كان أهم سؤال طرحته إدارة بايدن على “حكومة” العدو المجرم نتنياهو، ماذا عن اليوم التالي وتصور الكيان له.
ما يحدث في معظم الحالات والحروب التي يخوضها الكيان المجرم هو انتهاء العمليات العسكرية عند نقطة “الجمود” أو تحت ضغط سياسي أو إنساني متصاعد، ثم تبدأ مرحلة الوساطات والتي غالبًا ما تكون بقيادة الولايات المتحدة لتأمين وقف إطلاق النار أو العودة إلى ما يُعرف بـ”الردع المتبادل”. حصل هذا مرات متكررة في غزة ولبنان. واليوم بشكل أوضح وأعمق مع إيران.
استراتيجية الخروج هي ذلك الجزء من التخطيط العسكري والسياسي الذي يُعنى بكيفية إنهاء العمليات بشروط تضمن تحقيق الأهداف الاستراتيجية وتمنع العودة إلى المربع الأول. في الحالة الإسرائيلية، يُلاحظ أن هذا الجزء من المعادلة إما غائبا تمامًا أو مغيبا لصالح حسابات قصيرة الأمد.
في معظم جولات القتال، مثل حروب غزة (2008، 2012، 2014، 2021)، تبدأ “إسرائيل” حملات جوية واسعة النطاق، تتبعها أحيانًا عمليات برية محدودة، بحجة “إضعاف قدرة الفصائل على إطلاق الصواريخ” أو “استعادة الردع”. لكن في كل مرة، لا تطرح القيادة الإسرائيلية تصورًا لما يجب أن يحدث بعد نهاية القتال، وربما يكون ذلك بسبب الاعتماد الإسرائيلي على واشنطن لتأمين خروج مناسب، لتكون النتيجة غالبًا واحدة: وقف إطلاق نار هش، عودة تدريجية للأوضاع السابقة، ثم جولة قادمة بعد عام أو اثنين. هكذا كانت كل الحروب السابقة، وجاءت معركة طوفان الأقصى لتشكل الاستثناء من حيث إصرار نتنياهو على خوض الحرب بلا هوادة ولا تراجع، حتى تحقيق الأهداف التي لا تبدو منطقية، ومع أن الولايات المتحدة تقدم الدعم بغير سقف للكيان، إلا أنها بنفس الوقت تبحث عن خطة للخروج وانقاذ الكيان من المأزق الذي وصل إليه في غزة. وقد كان وقف النار الذي دخل حيز التنفيذ منتصف يناير الماضي عملا أمريكيا لصناعة خطة خروج، إلا أن المجرم نتنياهو عاد وانقلب على الاتفاق ونظر إليه على نطاق واسع أنه كان بدوافع شخصية وضغوط من شركاء نتنياهو في “الحكومة” بعد أن هددوا بإسقاطها.
تظهر الولايات المتحدة كلاعب مركزي في استراتيجية الخروج الإسرائيلية غير المعلن. منذ عقود، تتولى واشنطن، إضافة إلى كونها طرفا إلى جانب الإسرائيلي، لكن أيضا تتولى مهمة الوسيط الذي ينهي المعركة ويعيد الاستقرار – حتى وإن كان مؤقتًا. في كل مواجهة تقريبًا تتدخل الإدارة الأمريكية في الوقت الحرج لفرض وقف إطلاق نار، أو تعطيل قرارات إدانة في مجلس الأمن، أو التنسيق مع مصر وقطر كوسطاء إقليميين.
ما يلفت النظر أن الكيان الصهيوني بات يدمج هذا الدور الأمريكي ضمن خطتها منذ البداية. فهو يدرك أن دعم واشنطن السياسي والدبلوماسي مضمون إلى حد كبير، وأن أي عملية عسكرية يمكن أن تنتهي بـمخرج آمن بفضل تدخل الراعي أو الحليف الأمريكي.
لكن هذا الاعتماد لا يعني أن هناك “خطة خروج” بالمعنى الحقيقي. فالدور الأمريكي لا يتعدى كونه وسيلة لإنهاء القتال عند نقطة مناسبة، وليس وسيلة لبناء تسوية شاملة أو استقرار دائم. وبالتالي، يبقى الخروج مؤقتًا وهشًا، وتبقى جذور الصراع قائمة.
غياب استراتيجية الخروج لا يُعد مسألة تقنية أو عسكرية فقط، بل هو مأزق سياسي واستراتيجي في آن واحد. فحين تدخل “إسرائيل” في صراع دون تصور لما بعده، فإنها تفتح الباب أمام سلسلة من المخاطر، على رأسها الاستنزاف المتكرر، حيث تتكبد “إسرائيل” خسائر بشرية ومادية ومعنوية، حتى وإن كانت أقل من خصومها، لكنها لا تحقق إنجازًا استراتيجيًا حاسمًا، ولهذا سرى قول في “إسرائيل” بعد وقف النار مع إيران، أن الكيان دفع ثمنا باهضا، إلا أنه لم يهزم إيران.
في كل جولة صراع بين الكيان والمقاومة كان يتصاعد الضغط الدولي، لأنها تسفر عن سقوط عدد كبير من المدنيين، الأمر الذي كان يؤدي إلى إضعاف الموقف الإسرائيلي ويفتح باب الإدانة على مصراعيه، وكان ذلك أحد عوامل إنهاء الجولات السابقة من القتال، والمفارقة اليوم أن المجتمع الدولي لم يقم بما يجب من أجل وقف سفك الدم والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، لعدة أسباب، أهمها الدعم الأمريكي للكيان في المحافل الدولية على رأسها مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان.
من الناحية النظرية، فإن الكيان الإسرائيلي الذي يحافظ دوما على التفوق والردع، يمتلك قدرة كبيرة على حسم المعارك عسكريًا، لكن مع ذلك فإنه لم يربح في العقود الأخيرة أي حرب ولم يحول أي انجازات عسكرية إلى انجازات سياسية، وهذا مرده أولا أن الحروب المعاصرة لا تُربح فقط بالقوة النارية. ما لم تُرفق العمليات بخطة سياسية وأمنية متكاملة، فإن النصر يتحول إلى مجرد “نقطة توقف مؤقتة” في صراع مفتوح. وهذا يفسر السعي الحثيث من الكيان لإبرام اتفاقات تطبيع جديدة مع دول عربية، وبالأمس كانت صور الدعايات منتشرة تجمع نتنياهو وترامب وزعماء دول عربية طبعوا، أو في طريقهم للتطبيع، وصرح ستيف ويتكوف مبعوث ترامب للشرق الأوسط أنه يعتقد أنه ستكون هناك إعلانات كبيرة حول انضمام دول إلى اتفاقيات “إبراهام”.
وبناء على ما سبق، فإن “إسرائيل”، حتى الآن، لم تنجح في تقديم نموذج لنهاية صراع ناجحة. غزة مثال صارخ على ذلك. فبعد كل الحروب، تعود حماس لإعادة بناء قدراتها، ويعود السكان إلى معاناة الحصار، وتبدأ دوامة التصعيد من جديد.
واليوم لدينا مثال جديد، إيران، خرجت أقوى بعد عدوان 12 يوما، وأكثر إرادة وتصميما، وأكثر وحدة ، وتمسكا ببرامجها النووية والصاروخية، بعد أن قدمت واشنطن سلما للنزول من الشجرة، وفتحت بابا للخروج من المآزق، وفرضت على الكيان وقف النار، في حين كان نتنياهو يطالب بالمشاركة في الحرب ، فاكتفى ترامب بضربات استهدفت مواقع المنشآت النووية في فوردو وأصفهان، ووصفت في إيران والتقارير الأمريكية الاستخباراتية والإعلامية بأنها فاشلة.
غياب استراتيجية خروج واضحة في العمليات العسكرية الإسرائيلية لم يعد تفصيلاً تكتيكيًا هامشيًا، بل تحول إلى نقطة ضعف خطيرة تهدد جدوى القوة العسكرية ذاتها. وهذا النمط لا يخلق فقط أزمات أمنية متكررة، بل يقوض الثقة بقدرة الكيان على تحقيق الأهداف بعيدة المدى، بالتالي يمنع من التقارب معه أو تحقيق اختراقات جديدة في التطبيع، مالم تكن هناك ضغوطا أمريكية على البعض مثلما تمارسه واشنطن على الرياض، كما يدمر الصورة التي يريد صنعها قادة الكيان، بأن “إسرائيل” قوة إقليمية مستقلة، بينما هي في الواقع وبدون دعم أمريكي ستكون في خبر كان.