77 عاماً والعدو الصهيوني يرتكب بحق الشعب الفلسطيني جرائم إبادة جماعية. يقتل الأطفال والنساء والشيوخ وحتى الأجنة في بطون الأمهات. يصادر الأراضي والممتلكات، يقتلع الأشجار. ويعتقل الآلاف. مؤخراً يرتكب العدو الصهيوني في قطاع غزة مجازر لا مثيل لها في التاريخ الحديث. الحياة هناك،  أشبه بكابوس لا ينتهي، تتخلله أصوات الانفجارات وشبح الأمراض والمجاعة. “انهيار صحي”.. هكذا حذرت وزارة الصحة في غزة، في بيان يحمل صرخات آلاف المرضى والجرحى الذين تتهدد حياتهم بالخطر. منع العدو الإسرائيلي إدخال الإمدادات الطبية والوقود كان بمثابة حكم بالإعدام البطيء.

وزارة الصحة الفلسطينية أعلنت ارتفاع إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات إلى 652 شهيدا وأكثر من 4,537 إصابة. وذكرت أن حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس 2025 بلغت 6,572 شهيدا، 23,132 إصابة. وأشارت إلى ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 57,130 شهيدا و135,173 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.

تتجسد الكارثة بوضوح في مجمع الشفاء الطبي، الذي توقف عن تقديم خدمات غسيل الكلى تماماً. ما تبقى من خدماته اقتصر على العناية المركزة، ولساعات محدودة فقط. مدير المستشفيات الميدانية، الدكتور مروان الهمص، يشرح الوضع المأساوي بكلمات تملؤها المرارة: “نقنن استخدام المستلزمات الطبية، وما يلزم مريضاً واحداً نقسمه بين 2 أو 3″، في محاولة يائسة لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح. حذر الهمص من أن المستشفيات الرئيسية على وشك التوقف عن العمل تماماً خلال فترة قصيرة بسبب النقص الحاد في المواد الأساسية.

في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، الأرقام تتحدث عن فاجعة أخرى: 35 حالة مؤكدة من الحمى الشوكية بين الأطفال. حذر الأطباء من أن الظروف الحالية، من ازدحام داخل خيام النزوح وسوء تغذية حاد أضعف جهاز المناعة، ستؤدي إلى انتشار سريع للمرض. كما سجلت الوزارة 337 إصابة بالسحايا، منها 259 فيروسية. كانت الأدوية والمستهلكات الطبية شبه معدومة، بنسبة عجز وصلت إلى 47% في قائمة الأدوية الأساسية و65% في المستهلكات الطبية.

منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة، وصف المشهد قائلاً: “ما تبقى من مستشفيات في القطاع تعمل بطاقة لا تكفي لمواكبة حجم الإصابات والاحتياجات”. من أصل 312 غرفة عمليات، 45 فقط ما زالت تعمل، لكنها تفتقر إلى المقومات اللازمة لإجراء التدخلات الجراحية العاجلة والمعقدة.

الموت لا يطرق الأبواب، بل يقتحمها. 338 مريضاً من مرضى الأورام توفوا أثناء انتظارهم الحصول على تحويلات للعلاج في الخارج. 11 ألف مريض سرطان مُنعوا من مغادرة القطاع بعد تدمير المراكز التخصصية ومنع إدخال الأدوية. 513 مريضاً توفوانتيجة منعهم من السفر لتلقي العلاج خارج غزة. و41% من مرضى الفشل الكلوي لقوا حتفهم بسبب تعطل جلسات الغسيل، فيما تعمل 9 محطات أوكسجين فقط من أصل 34 بشكل جزئي.

الشمال.. منطقة خالية من المستشفيات

في الشمال، الصورة أكثر قتامة. تم تفريغ القطاع بالكامل من المستشفيات بفعل تدميرها ومحاصرتها، ما أدى إلى غياب تام للخدمات الطبية وازدياد الضغط على المراكز الصحية المتبقية في مدينة غزة، التي تعاني بدورها من نقص في مولدات الكهرباء التي لا تكفي لتشغيل الأقسام الحيوية. تدهورت حالة بنوك الدم وانعدمت فعالية حملات التبرع، نتيجة تفشي حالات فقر الدم وسوء التغذية. كما يعاني الأطفال الرضع من نقص حاد في الحليب العلاجي. وسُجلت منذ بداية العام 59 ألف حالة إسهال، و254 ألف إصابة بأمراض الجهاز التنفسي، مع تفاقم انتشار الأمراض المعدية في ظل انعدام مصادر التغذية ومياه الشرب.

التهجير القسري والمجاعة الوشيكة

“المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” يؤكد أن العدو الصهيوني يتعمد منع إدخال الوقود إلى مستشفيات شمالي قطاع غزة كوسيلة مدروسة لإجبار السكان، وخاصة المرضى وذويهم، على النزوح قسراً نحو جنوب القطاع. أكد المرصد أن منع الكيان الصهيوني دخول الوقود إلى مستشفيات غزة هو “أداة قتل وتهجير قسري”، مشدداً إن رفض العدو الصهيوني السماح بدخول الوقود يمثل “موتاً محتماً لغالبية المرضى”، ويعكس سياسة ممنهجة تتعمد تدمير النظام الصحي.

المرصد رصد تفشياً متسارعاً لبعض الأمراض المعدية، من بينها الحمى الشوكية (السحايا)، نتيجة انهيار القطاع الصحي وتعذر معالجة مياه الصرف الصحي. كما أشار إلى أن العدو الصهيوني يتسبب بمقتل عدد كبير من المدنيين في غزة يومياً نتيجة سياسات الحصار والحرمان، وهؤلاء لا يسجلون في السجلات الرسمية كضحايا للحرب لأنهم لم يُقتلوا بالهجمات العسكرية.

في الوقت ذاته، حذر “برنامج الأغذية العالمي” من أن فرصة مواجهة المجاعة التي تسببت فيها “إسرائيل” بقطاع غزة “تتلاشى بسرعة”. وقال البرنامج الأممي إن طواقمه العاملة في القطاع “تتكيف بشكل فوري” مع القيود الإسرائيلية على توزيع المساعدات، من خلال “إنشاء نقاط توزيع جديدة وتجاوز القيود الشديدة، واستخدام طرق آمنة للوصول إلى المحتاجين أينما كانوا”.

البنية التحتية تنهار و82% من غزة تحت أوامر التهجير

أعلنت بلدية غزة عن تعرض شبكة الطرق والشوارع في المدينة لأضرار جسيمة، نتيجة العدوان وحرب الإبادة. التقديرات الفنية بيّنت أن نسبة الأضرار الكلية في شبكة الطرق وصلت إلى نحو 42%، في حين بلغت الأضرار الجزئية قرابة 14%، وسجلت الأضرار الطفيفة ما نسبته 38%. حجم الدمار أدى إلى إغلاق العديد من الطرق، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً لإعادة تأهيلها.

أما وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، “أونروا”، فقالت إن 82% من مناطق قطاع غزة تخضع لأوامر تهجير وإخلاء إسرائيلية، وإن الفلسطينيين لا يجدون مكاناً يلجؤون إليه مع استمرار تدمير المنشآت ومراكز الإيواء. وذكرت الوكالة الأممية أن “جيش” العدو الصهيوني قصف صباح الإثنين مدرسة كانت مأوى لنازحين بمدينة غزة، ملحقاً أضراراً كبيرة بمركز الإيواء.

جمر في الخيام

في قلبِ الخيام التي غَزَلتها النجاة من الموت، يُولدُ موتٌ من نوعٍ آخر، حرارة تكاد تُذيب الأرواح قبل الأجساد، وعطشٌ لا يرويه سوى دمع الأمهات، وجوعٌ يتجوّل على موائد خالية، باحثًا عن رغيفٍ أو ما تبقّى من فتات.

هذه غزة التي صمتَ العالم عن وجعها، وارتفعت حرارة صبرها حتى صار عذابًا مكشوفًا على وجوه أطفالها.

ليست هذه الخيام مآوي، بل كما يصفها أهلها: “مقابر مؤقتة تحت الشمس”، قماشٌ رقيق لا يمنع وهجًا ولا يحجب لهيبًا، يُطبق على الأنفاس في ساعات الظهيرة، ويجعل من النوم حلمًا بعيدًا في كل ليلة بلا هواء.

في الداخل، تُحتجز الحياة بين حرارةٍ خانقة، وأصوات أطفال يئنّون من عطش، وكبار في السن لا يقوون على احتمال الصيف في قلب خيام كالأفران وواقعٍ أشد سخونة.

مجزرة استراحة الباقة

على حافة المتوسط، حيث كانت رائحة القهوة تختلط بأنفاس البحر، ارتفعت فجأة سحابة سوداء أعادت إلى أهل غزة الحقيقة المرعبة: لا مكان آمن في هذا القطاع المحاصر، لا البحر ولا المقاهي ولا حتى الطفولة.

مساء الاثنين الماضي، وبينما كانت العائلات تحاول التشبث بشيء من الحياة في مقهى “الباقة”، ألقت طائرات الاحتلال قنبلة أميركية الصنع من طراز MK-82، على المبنى المكون من طابقين من الخشب، لتقتل أكثر من 34 مدنيًا في لحظة واحدة، وتحيل المكان إلى ركام وأشلاء وذاكرة ملطخة بالدم.

من بين الشهداء طفل في الرابعة من عمره، كانت عائلته تحتفل بنجاتهم من غارة سابقة، وربة منزل خرجت لالتقاط بعض الصور للغروب، ومخرج سينمائي معروف كان يعدّ لعمل توثيقي عن الحياة تحت الحصار، وانتهى به المطاف وثيقة جديدة في أرشيف الموت.

أما المصابون، فهم مجرد أطفال ومراهقين ونساء، حُرموا من أطرافهم أو بصرهم أو ذاكرتهم، فتاة في الثانية عشرة فقدت ساقيها، وفتى في الرابعة عشرة يرقد في العناية المركزة بين الحياة والموت، بينما لا يزال والداه يبحثان عن جثمان أخيه الأصغر تحت الركام.

جوع ونار

في مشهد يعكس الانهيار الأخلاقي والإنساني أمام أعين العالم، يستمر الفلسطينيون في قطاع غزة في التجمّع يوميًا حول نقاط توزيع المساعدات، بحثًا عن قوت أطفالهم في ظل الجوع والحصار، لكنهم يُقابلون بالقنص والقصف والقتل. مشهد الطوابير التي تتحوّل إلى ساحات إعدام جماعي لم يعد استثناء، بل بات نمطًا يوميًا من أنماط العنف الممنهج الذي يمارسه العدو الإسرائيلي ضد مدنيين جوعى لا يملكون أي وسيلة للنجاة سوى الانتظار.

ومنذ فجر يوم الخميس، ارتقى ما لا يقل عن 63 فلسطينيًا بينهم 31 من منتظري المساعدات، بنيران العدو الإسرائيلي، بينما أصيب العشرات بجراح متفاوتة، فقرب دوار النابلسي غرب مدينة غزة، استشهد 7 مدنيين وأصيب أكثر من مئة، فيما استشهد خمسة آخرون في قصف استهدف تجمعًا مماثلًا قرب جنوب محور “نتساريم” وسط القطاع. كما أفادت مصادر طبية بوصول 8 شهداء و30 إصابة إلى مستشفى الصليب الأحمر جراء استهداف منتظري المساعدات في منطقة الشاكوش شمال غرب رفح. وفي خان يونس، جنوبي القطاع، أفادت المصادر الطبية بارتقاء عشرة شهداء في قصف طال مجموعة من منتظري المساعدات.

وزارة الصحة في غزة قد أعلنت، أن عدد ضحايا مراكز توزيع المساعدات، التي تعمل وفق “الآلية الأمريكية–الإسرائيلية”، ارتفع إلى 652 شهيدا و4537 مصابًا منذ بدء العمل بها في 27 مايو/أيار الماضي، ما يعكس فشل هذه الآلية في تأمين سلامة المحتاجين.

وكالة “أسوشيتد برس” كشفت في تقرير صادم  توثيق ممارسات عنيفة ومهينة بحق الفلسطينيين في مراكز توزيع مساعدات بقطاع غزة، تديرها مؤسسة أمريكية، وسط مشاهد صادمة من الفوضى والانتهاكات.

وأظهرت مقاطع مصورة حصلت عليها الوكالة مئات الفلسطينيين يتدافعون خلف بوابات حديدية، وسط أصوات طلقات نارية وانفجارات واستخدام رذاذ الفلفل، في مشاهد توحي بمسرح صراع وليس عملية إنسانية. في إحدى اللقطات، يسمع حراس أمريكيون يتحدثون عن كيفية تفريق الحشود، حيث قال أحدهم: “أعتقد أنك أصبت أحدهم”، ليرد آخر بحماس: “نعم، يا فتى”، في دلالة على تطبيع العنف وتوثيق الحماسة المَرَضية في التعامل مع المدنيين.

وتُظهر مشاهد أخرى رجالًا يرتدون زيًا رماديًا – وصفهم المتعاقد بأنهم زملاؤه – وهم يلقون قنابل صوتية نحو الحشود المتجمعة في ممر ضيق، فيما واصل آخرون إطلاق الرصاص فوق رؤوس المدنيين أو نحو الأرض لترهيبهم وتفريقهم. واطّلعت الوكالة على رسائل داخلية توثق استخدام 37 قنبلة صوتية، و27 قذيفة مطاطية-دخانية، و60 عبوة من رذاذ الفلفل في حادثة واحدة خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، دون احتساب ما تم استخدامه من ذخيرة حيّة.

وقال أحد المتعاقدين الذين قدموا الشهادات إن الفلسطينيين الذين يتوجهون لمراكز المساعدات يجدون أنفسهم عالقين “بين نيران الجيش الإسرائيلي من جهة، ونيران الحراس الأمريكيين من جهة أخرى”.

26 مجزرة خلال 48 ساعة

المكتب الإعلامي الحكومي، ذكر أن العدو الإسرائيلي ارتكب خلال الـ48 ساعة الماضية 26 مجزرة دموية بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، أسفرت عن استشهاد أكثر من 300 شهيدٍ، إلى جانب مئات الجرحى والمفقودين، في جرائم متلاحقة وجديدة تؤكد مضيه في تنفيذ سياسة القتل العمد والإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

وأوضح المكتب في بيان له، الخميس أن هذه المجازر البشعة تركزت على:

  • قصف مراكز الإيواء والنزوح المكتظة بعشرات آلاف النازحين.
  • قصف الاستراحات العامة مثل استراحة “الباقة”.
  • قصف العائلات الفلسطينية داخل منازلها.
  • قصف الأسواق الشعبية والمرافق الحيوية.
  • قصف وقتل المدنيين المُجوّعين أثناء بحثهم عن الغذاء.

وأكد أن غالبية الشهداء هم من النساء والأطفال، وكلهم من المدنيين العزّل، ما يعكس تعمّد العدو الإسرائيلي استهداف الفئات الأكثر ضعفًا. وأشار إلى تزامن هذه الجرائم مع محاولات العدو المتواصلة لإسقاط ما تبقى من المنظومة الصحية، من خلال قصف المستشفيات واستهداف الطواقم الطبية ومنع دخول الإمدادات الحيوية.