الصهيونية على حقيقتها.. الحصاد المرّ لعامين من الإبادة في غزة
تقرير |
عامان مرا منذ السابع من أكتوبر 2023، وما زالت غزة تنزف كأنها في اليوم الأول، تنزف أطفالاً وأمهات وأحلاماً لم تولد بعد، وتواجه أكثر المجرمين إجراما ووحشية. إنها الصهيونية تتجلى في أبهى صورها القاتمة، القائمة على الأشلاء والدماء.
عامان من النار والحصار والموت والخذلان، تكتمل فيهما دائرة الجريمة الصهيونية، فيما العالم يتفرج، والضمير الإنساني يتوارى في العتمة، حينما يكون المجرم يهوديا والضحية مسلما.
في هذا اليوم، يؤكد المكتب الإعلامي في غزة ببيانٍ يؤلم القلوب قبل العقول، يضع العالم أمام أرقامٍ لم تعد أرقاماً بل مقابر جماعية من المعنى والحياة: كل يومٍ في غزة يعني 77 طفلاً جديدًا يُصبح يتيمًا، و29 سيدة تفقد زوجها وتتحول إلى أرملة، و16 سيدة حامل تُجهض جنينها بفعل الرعب والجوع والقصف. هكذا بدا المشهد في غزة، وهكذا ظهر اليهود بقبحهم وإجرامهم غير المسبوق.
كل يومٍ في غزة، ليس يوماً كباقي الأيام، بل يوم موتٍ مُكررٍ بعدد أنفاس المدينة المحاصرة.
بعد مرور عامين على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلنت وزارة الصحة في القطاع أن حصيلة المجزرة بلغت 67173 شهيداً و169780 جريحاً؛ إن هذا الرقم يعني أن كل شارعٍ في غزة يحمل شهيدًا، وكل بيتٍ يئنّ من جريح، وأن الهواء نفسه مثقلٌ برائحة الدم.
من بين هؤلاء، 20179 طفلاً، و10427 سيدة، و4813 من كبار السن. أرقام لا تصف موتاً عادياً، بل انقراض حياةٍ بكاملها، عائلاتٌ أُبيدت من السجل المدني ومن الذاكرة معاً. لم تترك الإبادة الإسرائيلية شيئاً إلا وجعلته رمادًا؛ لم تفرّق بين كبير وصغير ولا شيخ ولا امرأة.
في واحدة من أكثر صور الوحشية إيلاماً، استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية الطواقم الطبية نفسها، فقد استشهد 1701 من الكوادر الصحية، بين طبيبٍ وممرضٍ ومسعفٍ، وأسر العدو 362 آخرين في ظروفٍ من التغييب القسري، مُنِع عنهم الدواء والغذاء وحتى الاعتراف بإنسانيتهم.
تخيّل طبيبًا يترك مشرطه لينقذ جريحًا، فيُستهدف معه في نفس اللحظة، أو ممرضةً تُسعف طفلاً ثم تُقتل وذراعها ما زالت تحضنه.
العدو الإسرائيلي لم يكتفِ بقتل المرضى، بل قرر قتل من يحاول إنقاذهم، وكأنّ الرسالة واضحة: “لن ينجو أحد في غزة”.
لم تعد المستشفيات في غزة كما نعرفها، تحوّلت بفعل الإجرام الصهيوني إلى أنقاضٍ تختبئ فيها أرواح تصارع للبقاء. من أصل 38 مستشفى خرج 25 مستشفى من الخدمة بشكل كامل، فيما تعمل 13 مستشفى فقط بشكلٍ جزئي وتحت القصف وانقطاع الوقود والماء والكهرباء. أما مراكز الرعاية الصحية، فقد دُمّر 103 مركزًا من أصل 157، فيما تعمل البقية بقدراتٍ هزيلة ومعداتٍ متهالكة. تصل نسبة العجز في الأدوية إلى 55%، وفي المستهلكات الطبية إلى 66%، وفي المستلزمات المخبرية إلى 68%.
لم يعد في غزة مكانٌ للشفاء، حتى غرف العمليات أصبحت مقابرَ صغيرةً مؤقتة، والأطباء يعملون بأدواتٍ صدئة وبأيدٍ مرتجفة من الجوع والسهر والدموع.
لم تعد كلمة “مجاعة” توصيفاً مجازياً للوضع في غزة، بل حقيقة دامغة توثّقها الأمم المتحدة، فقد وصلت مستويات الجوع إلى حدٍّ غير مسبوق في التاريخ الحديث: 460 شهيداً قضوا جوعاً بفعل الحصار الإسرائيلي، بينهم 154 طفلاً. إنها مجزرة بطيئة، لا بصواريخ ولا بطائرات، بل بلقمةٍ مفقودة وجرعة ماءٍ محرّمة.
أكثر من 51196 طفلاً دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد، بعضهم لا يقوى على البكاء، عيونهم جمراتٌ في وجوهٍ غارقة بالهزال. وفي كل مرة يُغلق فيها معبر، تموت آلاف الأرواح وهي تنتظر تصريح عبورٍ لا يأتي، كأن الموت نفسه بات حارس الحدود.
تُشير الإحصاءات إلى 4900 حالة بتر وإعاقة، كثير منها لأطفالٍ فقدوا أطرافهم بفعل شظايا قنابل أمريكية إسرائيلية. لكن المأساة الحقيقية أن هؤلاء الجرحى بحاجة إلى أدواتٍ مساندةٍ وبرامج تأهيل طويلة الأمد، في وقتٍ لا يجدون فيه حتى سريرًا في مشفى، فأين الإنسانية التي طالما سمعنا بها في الإعلام الغربي؟!.
الأطفال الذين كانوا يركضون وراء الطائرات الورقية، أصبحوا اليوم يزحفون على الأرض فزعا من الطائرات الإسرائيلية، وليبحثوا عن ما تبقّى من أحلامهم الصغيرة. العدو لم يكتفِ بقتلهم، بل سرق منهم القدرة على المشي إلى الغد.
كل طريقٍ في غزة مغلق، وكل معبرٍ هو سجن. هكذا أراد العدو الإسرائيلي أن يكون المشهد، وقد نجح في ذلك نتيجة الصمت العالمي والتخاذل الأممي. أكثر من 18 ألف مريض حُرموا من السفر للعلاج في الخارج، بينهم 5580 طفلاً، في وقتٍ يعرف فيه العالم أن كل تأخير يعني موتًا جديدًا. أمهاتٌ يحملن أطفالهن المرضى على أمل الخروج، فيعدن بهم على الأكتاف جثامين ملفوفة بالأكفان.
هذه ليست سياسة “أمن”، بل سياسة إفناءٍ ممنهجة، تُحاصر المرضى كما تُحاصر المدينة، وتجعل من الهواء تهمة ومن الدواء حلماً بعيد المنال.
في ظل هذا الانهيار الكامل للمنظومة الصحية، وجّهت وزارة الصحة في غزة نداءً عاجلاً إلى العالم، تدعو فيه كل الجهات الدولية إلى التحرك الفوري، ليس فقط لتوفير الدواء، بل لوقف الجريمة المستمرة بحق الإنسانية نفسها.
تقول الوزارة في بيانها الأخير: “ما تبقّى من النظام الصحي في غزة يتهاوى، والمستشفيات تعمل في ظروفٍ قاهرة، والعاملون فيها يخوضون معركة إنقاذٍ بأجسادهم العارية.” لكن، كما في كل مرة، كان الصدى في الخارج صمتاً ثقيلاً، يذكّرنا أن العالم لا يسمع إلا صوت السلاح، ولا يرى إلا ما يخدم مصالحه، ولا يتفاعل عندما يكون المجرم يهوديا.
في غزة اليوم، لا شيء يشبه الحياة سوى الإصرار على البقاء. المدينة التي فقدت نصفها لم تفقد نبضها، تستيقظ على القصف الإسرائيلي والقنابل الأمريكية، وتنام على الدمار، لكنها تظل تزرع خبزها – إن وجد – على الحجارة، وتُرضع أطفالها الأمل من جراحها. في كل حيٍّ من أحيائها، قصة تُعيد تعريف معنى الصمود: امرأة تبحث في الركام عن ألعاب أطفالها، طفلٌ يجمع بقايا كتبه ليُقيم منها مدرسةً في خيمة، طبيبٌ يكتب وصيته على كَمامةٍ قبل أن يدخل غرفة العمليات بلا تخدير.
غزة تُربّي الصمود كما تُربّي الوجع، لأن البقاء فيها فعل مقاومة، ولأن الموت فيها لا يُخيف من ماتت حوله الدنيا.
عامان من الإبادة، ولم تتحرك مؤسسة أممية واحدة لتفرض وقفاً حقيقياً لإطلاق النار، عامان من المجازر اليومية، ولم يُحاسَب مجرم واحد. العالم الذي أقام الدنيا من أجل “أسيرٍ” واحد، لم يتحرك أمام مئات آلاف الشهداء الفلسطينيين. إنها أبشع صور الازدواجية الإنسانية في التاريخ، حيث يُقاس الدم باللون والجغرافيا، تُختصر العدالة في مصالح القوى الكبرى، ومخطط الصهيونية.
لكن غزة رغم كل ذلك، ما زالت ترفع رأسها، وتقول للعالم الذي خذلها: “لن نُباد مرتين، مرة بالسلاح ومرة بالنسيان”.
تخاطب وزارة الصحة في غزة العالم اليوم من بين جدرانٍ مثقوبة بالقذائف: “ساعدونا لإنقاذ ما تبقّى من الأرواح”، لكن الرد يأتي على شكل صفقات سلاح جديدة، ومؤتمرات صامتة. كأن العالم نسي أن تحت هذا الركام بشرًا، وأطفالًا، وأحلامًا صغيرة لا ذنب لها سوى أنها وُلدت في غزة.
العالم كله اليوم تحت الاختبار، والإنسانية تحت المجهر، وقد سقط كل عنوان ومنظمة وهيئة وما تبقّى من الشرف والأخلاق، وسيكتب التاريخ أن القرن الحادي والعشرين شهد أكبر مجزرة على مرأى العالم.
حين تقرأ أرقام الشهداء، تشعر أن غزة فقدت كل شيء، لكنها في الحقيقة ربحت ما لا يُشترى: الكرامة والخلود. ربحت ضمير العالم الحر، وصارت رمزاً للمقاومة في وجه الإجرام. العدو الإسرائيلي أرادها درساً في الإبادة، فجعلها درساً في الصمود والإنسانية. أراد أن يمحو وجودها، فخلّدها في وجدان الأرض. وأراد أن يُخيف أطفالها، فأنجب من بين ركامها جيلًا لا يعرف الخوف.
عامان من النار، ولا تزال غزة على قيد الحياة، تحمل جراحها وتمشي نحو الإباء، لأن القتل لم يعد يرعبها، ولأنها عرفت أن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من الإيمان بأن الحق لا يزول ولو زال أهله. غزة اليوم تظل تقول بصوتٍ واحدٍ يعلو فوق الركام: “نحن الحياة التي لا تُهزم، والذاكرة التي لا تُمحى، نحن غزة، ونحن الحكاية التي لا تنتهي”.