تقرير

في فجر السابع من أكتوبر عام 2023، وبعد أن صار القتل هوية يهودية، جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتكون ضرورة لا خيارًا. انبثقت العملية من قلب الحصار والعربدة الصهيونية في الضفة والقدس، لتعيد رسم المشهد من جديد، وبالشكل الذي يؤكد أن العملية المباركة كانت ضرورة تاريخية، حتميةً وجودية، وردًّا على اختناقٍ طال أمده، حتى صار الانفجار مسألة وقت لا أكثر.

قبل هذا اليوم المشهود، كانت رياح التطبيع تعصف بالعالم العربي، لتُحِلّ الكيان الصهيوني الغاصب ضيفًا على موائد القرار العربي. في المقابل، كان العدو يوسّع خطواته نحو تهويد القدس، يحاول سلخها من هويتها، ويغتصب حيًّا تلو الآخر، كما حدث في “الشيخ جراح” عام 2021. تزامن ذلك مع استهدافٍ ممنهجٍ للأراضي الفلسطينية.

بعد أكثر من 75 عامًا من الاحتلال والمعاناة، وفشل أي أمل في التحرير والعودة، ونتائج كارثية لمسار التسوية السلمية، والسعي الصهيوني الحثيث لبسط السيطرة على الضفة الغربية، وآلاف الأسرى الفلسطينيين يقبعون في معتقلات العدو، وفي ظل الحصار الجائر على قطاع غزة، الذي أدى إلى موت بطيء للسكان هناك، ناهيك عن 7 ملايين فلسطيني يأملون في العودة إلى ديارهم بعد 75 عامًا من النفي والتشرد، وفي ظل عجز المجتمع الدولي وتواطؤ بعض الدول الكبرى في استعادة الأرض والمقدسات، كان لزاما على الشعب الفلسطيني أن يتخذ موقفًا للدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته، ويمارس حقًا مكفولًا في القانون الدولي والشرائع والأعراف البشرية.

حين يكون الصمت خيانة

أمام هذا المشهد الواسع من الهوان والتطبيع والخذلان، أدركت المقاومة الفلسطينية أن الوقت قد حان لفعلٍ غير تقليدي، فالصبر صار ثقلًا والانتظار تواطؤًا ناعمًا. فاختارت المقاومة أن تقلب الطاولة، وأن تعيد تشكيل الوعي، عبر عملية مدروسة لم تكن عشوائية ولا انفعالية، بل قرارًا واعيًا جاء بعد حساب دقيق للظروف الميدانية والسياسية والعالمية.

في قلب الظلمة، كان 1200 مجاهد من كتائب القسام ينتظرون شارة الانطلاق دون إجبار ولا إكراه، بل بشغف الدفاع، وشوق الفداء. انطلقوا بدراجاتٍ نارية، بأسلحة خفيفة، حاملين في صدورهم وزن أمة، وأمل شعبٍ طاله التشريد والحصار والاستيطان.

في غضون ساعات، انهارت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”. تحطّمت عند تخوم غزة، وسقطت معها أقنعة الأمن الإسرائيلي. فاجأت العملية العدو والصديق على حد سواء، إذ استطاع المجاهدون اقتحام المغتصبات في ما يسمى “غلاف غزة”، والسيطرة على مواقع عسكرية، وأسر عدد كبير من الجنود الصهاينة، وتسجيل حضور ميداني غير مسبوق منذ عقود.

“طوفان الأقصى” كان عملية تدمير ممنهج لمشروع أمريكي إسرائيلي هدفه تصفية القضية الفلسطينية بالكامل. لقد أعادت هذه العملية تعريف التوازنات، وأكدت أن المشروع الصهيوني -رغم الدعم والتطبيع- لا زال هشًا أمام عزيمة شعبٍ يؤمن بحقه.

كانت أهداف العملية تفوق نطاق غزة، فحملت على عاتقها آمال الملايين: من الأسرى في سجون العدو، الذين يواجهون التنكيل الوحشي، إلى أهالي غزة المحاصرين منذ سنوات، إلى اللاجئين الذين ينتظرون منذ 75 عامًا أن تطأ أقدامهم تراب الوطن. أراد “طوفان الأقصى” أن يقول إن الوقت قد حان لعودة الاعتبار، للحرية، لكرامة لا تُشترى ولا يُساوَم عليها.

رواية المقاومة الحقيقة التي لا تموت

“خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية”. هكذا لخصت حركة حماس الدافع وراء عملية طوفان الأقصى في وثيقة رسمية أصدرتها في 21 يناير 2024، أوضحت روايتها عن طوفان الأقصى، مبينة الأسباب التي أدت إلى المعركة، مشددة على أنها جاءت أيضًا لمواجهة ما يحاط من خطط للسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة.

وشددت على أنها خطوة طبيعية في إطار التخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

75 عاما من الإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني:

يقول الصهيوني “بن غوريون”، أول “رئيس وزراء” للكيان الصهيوني: “إنّ الوضع في فلسطين سيُسوَّى بالقوّة العسكريّة”. كأنما كانت هذه العبارة البيانَ التأسيسي لنهج الكيان الصهيوني، وأوضح ما يكون من ترجمةٍ صريحة للمنطلقات الاستراتيجية التي تبنّتها الحركة الصهيونية منذ بداياتها: استيطان الأرض، اقتلاع أهلها، وترسيخ الكيان بقوة المجازر.

فمنذ اللحظة الأولى لتأسيس الكيان عام 1948 وحتى يومنا هذا، ما زال سجلّ العدو الإسرائيلي ملطخًا بالدم الفلسطيني، ومثقلًا بالمذابح التي لم تكن حالات طارئة أو نتائج جانبية للحرب، بل أدوات ممنهجة لفرض الوجود بالقوة.

من بلد الشيخ إلى غزة، ومن دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، دماء الشيوخ والنساء والأطفال كانت الوقود الذي اختاره الاحتلال الإسرائيلي لترسيخ كيانه، متجاوزا كل الأعراف والقوانين، ومحميّاً بصمت دوليّ وتخاذل إسلامي.

وهنا نستعرض أبرز المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني:

مجزرة بلد الشيخ: أقدمت عصابة “الهاغاناه” الصهيونية في 31 ديسمبر 1947 على شن غارة استهدفت بها قرية بلد الشيخ الواقعة في الجنوب الشرقي لمدينة حيفا، حيث لاحقت سكانها المدنيين العزّل لعدة ساعات، الأمر الذي أسفر عن استشهاد نحو 60 منهم، أغلبيتهم من النساء والأطفال.

مجزرة دير ياسين: وقعت المجزرة في قرية دير ياسين الواقعة غربي مدينة القدس، وذلك في 9 أبريل 1948 على أيدي جماعتَي “الأرغون” و”شتيرن” الصهيونيتين، ونتج عنها استشهاد نحو 300 من سكانها، معظمهم من الأطفال وكبار السن والنساء.

مجزرة قرية أبو شوشة: حدثت في قرية أبو شوشة الواقعة شرقي مدينة الرملة يوم 14 مايو 1948، أي عشية موعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي أثناء الاستعدادات الأخيرة لقادة الحركة الصهيونية، قُبيل إعلان قيام كيانهم على أرض فلسطين في اليوم التالي. وقد نتج عن تلك المجزرة استشهاد نحو 60 من النساء والرجال والشيوخ وحتى الأطفال، وقد أطلق جنود “لواء غفعاتي” -الذي نفذ المجزرة- النار حينها على كل شيء يتحرك من دون تمييز.

مجزرة الطنطورة: في 23 مايو 1948، هاجمت الكتيبة “رقم 33 ” التابعة للواء “الإسكندروني” قرية طنطورة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط وعلى مقربة من مدينة حيفا، واحتلتها بعد ساعات من مقاومة أهالي البلدة لقوات الاحتلال الصهيوني. وقد خلفت هذه المجزرة نحو 200 شهيد، وتم دفنهم في قبر جماعي.

مجزرة قبية: طوقت وحدتان عسكريتان من قوات العدو الصهيوني في 14 أكتوبر 1953 -بقيادة المجرم “أريئيل شارون” “رئيس وزراء” الكيان السابق- قرية قبية الواقعة في الضفة الغربية غربي مدينة رام الله، والتي كانت آنذاك تحت سيادة المملكة الأردنية. وبعد قصف مدفعي مكثف استهدف المساكن، اقتحمتها القوات المدججة بأحدث الأسلحة، مطلقة النار بصورة عشوائية على المدنيين، وعمد بعض الصهاينة إلى وضع شحنات متفجرة حول بعض المنازل، فنسفتها فوق ساكنيها. وقبل ذلك، رابط هؤلاء الصهاينة بالقرب من المنازل، وأطلقوا النار على كل من حاول الفرار، فكانت حصيلة هذه المجزرة استشهاد 67 شخصاً، من الرجال والنساء والأطفال.

مجزرة خان يونس: نفذ العدو الصهيوني في 3 نوفمبر 1956 مجزرة بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم خان يونس جنوبي قطاع غزة، فراح ضحيتها أكثر من 250 شهيداً، بعد أن قامت قواته بتجميع بعضهم في الساحات العامة، وإطلاق وابل من الرصاص عليهم. وبعد تسعة أيام من المجزرة الأولى، أي في 12 نوفمبر، نفذت وحدة من “جيش” العدو مجزرة وحشية أُخرى، راح ضحيتها نحو 275 شهيداً من المدنيين في المخيم نفسه.

مجزرة صبرا وشاتيلا: وقعت هذه المجزرة في مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وذلك بين 16 و18 سبتمبر 1982، بعد اجتياح العدو الصهيوني، بقيادة المجرم الصهيوني “أريئيل شارون” للعاصمة اللبنانية بيروت، حيث تعرض المخيم لحصار، ثم قصف متواصل خلّف 1500 شهيد من الفلسطينيين واللبنانيين، بينهم مئات الأطفال والنساء.

مجزرة الحرم الإبراهيمي: وهي مجزرة نفذها الطبيب اليهودي باروخ غولدشتاين في مدينة الخليل فجر 25 فبراير 1994، برفقة عدد من المستوطنين وجنود العدو، بحق المصلين الفلسطينيين في المسجد الإبراهيمي خلال أدائهم صلاة فجر الجمعة الموافق للخامس عشر من شهر رمضان المبارك 1414هـ. وقد استشهد في هذه المجزرة 29 مصلياً، في حين نجح بعض المصلين في الانقضاض على “باروخ” وقتله.

مجزرة جنين: في الفترة بين 1 و11 أبريل 2002، اقتحمت آلاف القوات الصهيونية مدينة جنين بحجة القضاء على المقاومة، وقامت -حينها- بارتكاب أعمال القتل العشوائي، واستخدام الدروع البشرية، ومنع وصول الغذاء والدواء والمساعدات الطبية إلى أهالي المدينة. وقد استشهد في هذه المجزرة أكثر من 500 فلسطيني، معظمهم من المدنيين.

مجزرة كفر قاسم: في 29 أكتوبر 1956، كان جنود صهيونيون من “حرس الحدود” على موعد مع مجزرة جديدة رهيبة، وهذه المرة في قرية كفر قاسم شرقي مدينة يافا المحتلة منذ سنة 1948. فعشية العدوان الثلاثي على مصر، فرضت قيادة جيش العدو حظراً مفاجئاً للتجول على أهالي عدة قرى عربية محاذية للأردن، ومنها كفر قاسم، التي كان سكانها عائدين مساءً إلى بيوتهم من حقولهم أثناء موسم الزيتون، ولدى عودة المئات من أهالي القرية إلى بيوتهم، كان جنود العدو الصهيوني بانتظارهم، فعاجلوهم بإطلاق الرصاص عليهم، ليرتقي جراء ذلك 49 شهيداً (منهم 23 طفلاً دون سن الثامنة عشرة) بدم بارد وخلال ساعة واحدة فقط، بالإضافة إلى أضعافهم من الجرحى، ولم تبق عائلة في القرية إلاّ ولها نصيب من الضحايا.

مجزرة المسجد الأقصى: وقعت هذه المجزرة حينما حاول يهودٌ ممن يطلق عليهم اسم “أمناء جبل الهيكل” وضْعَ حجر الأساس للهيكل الثالث المزعوم في ساحة المسجد الأقصى، وذلك في 8 أكتوبر 1990، فقام أهالي مدينة القدس بمحاولات لمنعهم من تدنيس المسجد، الأمر الذي أدى إلى وقوع اشتباكات بين اليهود الصهاينة (يقودهم المجرم “جرشون سلمون”) ونحو خمسة آلاف فلسطيني قصدوا الأقصى لأداء صلاة الظهر فيه، وتدخّل حينها جنود العدو الموجودون بكثافة داخل الحرم القدسي، وأمطروا المصلين بوابل من الرصاص، من دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ، وهو ما أدى إلى استشهاد نحو 21 فلسطينياً.

 حين لا يكون أمامك سوى أن تنهض

ومن هذا المنطلق فإن عملية طوفان الأقصى المباركة كانت فعلًا تاريخيًا لا بدّ منه، ضرورة وجودية لا ترفًا سياسيًّا. كانت إجابة فلسطينية صلبة على سؤالٍ طال طرحه: “وماذا بعد كل هذا الظلم؟” فجاء الرد ليكتب ملحمة الجهاد الفلسطيني، وليفتح الطريق نحو حريةٍ باتت ممكنة رغم كلفة الدم. فحين يغدو الاحتلال هو القيد، وحين يَمنعك العالم من التنفّس، لا يبقى أمامك إلا أن تصرخ طوفانًا، لتُعيد التوازن إلى المعادلة، وتؤكد أن شعب فلسطين لا يُهزم.